الجمعة، 30 سبتمبر 2016

"عبدالرحمن منيف بدوي في ''أرض السواد''

  

(ان الذكرى, مهما كانت الصفة التي نعطيها لها, حالة تجعل الإنسان, أي إنسان, أقرب إلى الاستسلام, ومسكونا بالماضي وناسه)
ع .منيف - سيرة مدينة
..


.. عبدالرحمن منيف
من منّا لم يعرف هذا الاسم الشاهق, ولم يقرأ له, ومن منّا لم يتساءل أيضا من هو عبدالرحمن منيف, الذي كاد (من شهرة اسمه لا يسمى) على قول الشاعر البردوني عن جدنا المتنبي.
إذاً هذه الحلقات نبش في الذاكرة, وحفر في الاعماق, واستعادة للماضي مهما كان مبهجاً أو حزيناً.. ومحاولة أولى لتصحيح التواريخ والأحداث واعادة الذاكرة الى حالتها الأولى.

فأبو ياسر بقامته الفارعة روائيا, يمثل لنا حالة من حقنا ان نعرف من هي بعيدا عن الأوهام والتهاويم واشتباكات الماضي التي كادت ان تنقرض. وهنا تكون الحقيقة, الحقيقة وحدها هي الهدف والغاية, ووسيلتنا لها درب طويل من المعلومات والمواقف وما تراكم من وثائق.. وما وصل لنا من حكايات عن زمن البدايات, وبداية الوله, هذه السيرة شغف باكتناه الأصل بعيداً عن ضجيج الواقع, مهما كان الواقع راسخا ومتجذراً.. لان الهدف هو الكشف.. واكتشاف الحقيقة..
وهذا هو عبدالرحمن ابراهيم المنيف.. 

(الآن هنا) في دمشق ولكن رحلة التيه والاغتراب من القصيبا حتى شرق المتوسط بدأت قبل قرن وعقدين من الزمان تقريبا.

فما بين عامي 1880 و1890 غمرت ابراهيم المنيف الشاب المفعم بالطموح والمغمور بروح المغامرة رغبة للخروج من قحط القصيبا وحدودها الضيقة والخروج بعيدا الى هناك حيث يرحل الرجال الذين عركوا التجارة والترحال.. ومن بريدة الى بلاد الشام وأرض السواد بدأت تغريبة البدوي في المدن الكبرى.

ومن دمشق الى الكرك وعمان حتى بغداد.. تنقل وتاجر وفي كل مرة كان يعود الى بريدة يصفي حساباته.. وينهي بعض اموره.. ويعود الى (العقيلات) الذين تناسلوا من رحم قبائل عدة ليكونوا قبيلتهم الجديدة التي صنعت ثقافتها ووعيها.. وتاريخها.

العقيلات.. أصلا وفصلا

العقيلات كما تقول جل المصادر تجار يتاجرون بالخيل والإبل وباقي انواع التجارة وقد مارسوا هذه الحرفة على مدى اربعة قرون حتى انتهت مهمتهم عام 1366هـ حين انقرضت هذه التجارة, وكان العقيلات يحددون سفرهم بالصيف ويختارون بداية الشهر القمري حتى تتمكن القافلة من السير بالليل اتقاء لحرارة الشمس بالنهار, وكانوا يقطعون المسافات الطويلة على ظهور الإبل وهم يرددون:

يالله على كور منجوبه
من شايبات المحاقيني
أحلى من الهرش وركوبه
باوساط زمل المعازيني

وكان طريقهم الذي يبدأ من بريدة يمر بالجوف والقريات وكافة مدن الحدود الشمالية للمملكة, فيبيعون المواد الغذائية ومنها القهوة والهيل والشاي والسكر حتى يصلوا الى الشام وفلسطين والعراق ومصر وبلاد اخرى مجـــاورة مثل ايران وتركيا.

وعنهم يقول الشيخ عبدالله بن ابراهيم السليم (ان عقيل يأخذون البضاعة بالثلث, ثلث للعامل, وثلث للمصاريف, وثلث لاهل الاموال, اما التجارة الاخرى فهي بالنصف لذا تختلف عقيل عن غيرهم فهم يحرصون على من يسافر معهم, ويحافظون على بضاعته, وهم اهل مروءة وكرم وشجاعة وللعقيلات نمطهم وتقاليدهم وعاداتهم المعروفة عنهم كما ان لهم اميرا يسمى (أمير عقيل) يرجعون اليه في كافة امورهم.

ويؤكد ذلك الشيخ محمد بن ناصر العبودي في كتابة (معجم بلاد القصيم) حيث يقول (فان الحواضر في المدن العربية كانت تعج باهالي بريدة حتى ان الشاعر محمد العوني عندما استنهض عزم قوم اهل بريدة بقصيدته المشهورة (الخلوج) فارتحلوا عائدين الى بلادهم ليذودوا عنها, اقفل سوق العصر في دمشق ابوابه وتعطل فيه البيع والشراء وذلك لان تجاره هم من اهل نجد الذين اغلبهم من اهالي بريدة.

ونضيف هنا اضافة الى ماذكره الشيخ العبودي بعضا من قصيدة (الخلوج) الذي يقول العوني في مطلعها:

خلوج تجذ القلب باتلا.. عوالها
تكسر بعبرات.. تحطم سُلالها
تهيض مفجوع الضمير بحسها
الى طوحت حسه تزايد هجالها
له قلت أنا ياناق كفي عن البكا
لا تبحثين النفس عما جرى لها
لاتفجعين البال بالله هودي
ولي خلوج خبث البين بالها

ونعود مرة اخرى الى رواية الشيخ العبودي حيث يستطرد في حديثه عن العقيلات ويقول (وبغداد التي كانت حاضرة الدنيا كان يقال لجانبها الغربي (صوب عقيل) وعقيل اكثريتهم الساحقة من اهالي القصيم واكثرهم من بريدة, ولقد كان لجيش عقيل تاريخ فعال في احداث العراق, ولقد كان اهل بريدة اكثر الناس صبرا على الاغتراب, والنجعة في طلب الثراء حتى انهم وصلوا الى اغلب البلدان القريبة والبعيدة حتى انهم من اول من وصل الى الولايات المتحدة الامريكية من النجديين وعادوا منها قبل الحرب العالمية الاولى, ومن هؤلاء عبدالله بن خليفة والشيخ الرواف).

ابراهيم المنيف.. والعقيلات

لعلاقة والد عبدالرحمن منيف مع العقيلات بداية اولى مهمة, وننقلها هنا من كتاب (ترحال الطائر النبيل) لاستاذنا محمد القشعمي, فأبويعرب في محاولته الرائدة كما هو دائما قدم لمحات وبيبلوغرافيا مهمة عن المنيف لم يقدمها احد قبله برغم قربهم الشديد من عبدالرحمن منيف فهو يروي في صفحات كتابه المؤسس لما نقوم به هنا هذه الرواية كالتالي:

(ويروي الدكتور عبدالعزيز بن صالح الهلابي الاستاذ بقسم التاريخ بكلية الآداب جامعة الملك سعود بالرياض: ان ابراهيم بن علي المنيف عندما كان يافعا جاء الى رئيس احدى حملات العقيلات (يحيى العقيل) أمين عيون الجوى وقتها ومعه صالح بن شايع -ويكنى بالخوش- يطلبان مرافقتهم الى الشام.

وكان يحيى العقيل أحد رؤساء الحملات ينوي تجهيز حملته والاستعداد للتوجه للشام, فعندما قدم عليه ا براهيم المنيف وصالح الشايع وهما صغيرا السن وابديا رغبتهما بمرافقتهم ولعدم وجود اقارب لهم في الحملة, فقد طردهما رافضا ان يرافقاه.

فيسر الله لهما احدى الحملات الاخرى.. ووصل ابراهيم المنيف الى الشام, وبدأ وضعه المالي يتحسن وسرعان ماصار له شأن فاصبح يدعى (العم ابراهيم).

وبعد عشرين عاما تقريبا جاءه رئيس الحملة يحيى العقيل الذي سبق ان طرده ورفض مرافقته طالبا منه ان يقرضه مبلغا من المال فقال ابراهيم له:

الا تذكر موقفك معي انا وصالح بن شايع, فرد عليه نعم اذكر ولكن لم تكن انت وقتها العم ابراهيم, فلو اتيت الآن (لاحطك على رأسي). انما لوجاء صاحبك ابن شايع فله (ماطرق الحداد)..

الزواج من أم عبدالرحمن

وحتى لايأخذنا التداعي بعيدا عن مبدعنا الكبير عبدالرحمن منيف نوجز هنا جزئية عن زواجه من شقيقة شريكه في التجارة فعندما توفت زوجته (فاطمة العساف) الوحيدة التي بقيت معه بعد ان طلق كل زوجاته حزّ في نفسه ان يترك اولاده لوحدهم دون أن ترعاهم امرأة وان يبقى وحيدا دون امرأة تشاركه الحياة وعندما طرح هذه المشكلة على شريكه محمد سليمان الجمعان اقترح عليه موضوع زواجه من شقيقته نورة سليمان محمد الجمعان, وفي رواية اخرى انه طلب نورة من يد شقيقها وشريكه محمد الجمعان.. التي انجبت له عبدالرحمن وخديجة (التي توفيت بعد تخرجها من الجامعة وممارستها العمل لثلاثة اشهر) وحصة المترجمة المعروفة التي اصدرت عددا من الكتب.. والتي عملت رئيسة لقسم الترجمة بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض حوالي العشرين عاما.
الأب والزوجات وقبل ان نغرق في تفاصيل المبدع الروائي عبدالرحمن منيف نستعيد هنا تفاصيل دقيقة عن زوجات والده رواية عن ابنته نورة ابراهيم بن علي المنيف التي روت لنا بشغف وحب لهذه الارض.. وتداعيات اخيها عبدالرحمن حين قالت: 

والدي تزوج اول مرة من امرأة قصيمية كانت تعيش بالمدينة المنورة ثم تزوج والدتي (فاطمة العساف) وكانت شقيقتي الكبرى رقية اول مولود لها.. ثم تزوج عدة نساء سوريات هن رشيدة وفايزة ومريم وبدرية.. اللواتي انجبن لنا اخواننا الذين يسكنون قلوبنا وذاكرتنا.. واخيرا بعد وفاة والدتي تزوج من نورة الجمعان.. وياللحظ لقد كان اسمها على اسمي وعندما توفي والدي وصار ماصار.. صرنا نسكن معها.. في بيت شعبي بسيط في عمان بعد ان كنا نسكن في الفيلا الضخمة ولكن لاختلاف الرأي بين شقيقتي رقية التي كانت في الثامنة عشرة آنذاك.. طلبنا من الوصي عبيدان القحص ان يسكننا لوحدنا.. برغم مرارة البعد عن زوجة والدنا التي كنا نعتبرها أمنا.. وكانت تعتبرنا مثل اولادها..

ولادة المبدع

لايمكن لهذه الحلقة ان تنتهي ولوعدنا بعد ذلك للوراء عشرات المرات دون ان اشير لولادة عبدالرحمن منيف الذي زرع البهجة في قلب الأم حتى اخضرت من السعادة.. وضحت بعد ذلك بكل شيء من اجل اسعاده.. واتمام دراسته هو وشقيقتيه خديجة -يرحمها الله- وحصة.. ولكن ماذا حدث آنذاك الكل يعرف ان ابراهيم المنيف بشخصيته وماله وبعد وفاة زوجته فاطمة العساف.. قرر مع شريكه ان يستقر في عمان وهناك تزوج نورة الجمعان وبنى فيلا فاخرة وسكن مع زوجته الجديدة ولكن ماحدث لم يكن في الحسبان فالرجل الخمسيني.. الذي كان مفتونا بالمغامرة والتجارة والقراءة لم يستطع ان يتصدى لألم المرض الذي اصابه بعد حادث سير.. اشتعل ألمه بعد حين.. وهكذا بين اول بنت (رقية) وآخر ولد (عبدالرحمن) اشتعلت مسيرة اخرى لها من المغامرات الشيء الكثير..

من هو عبدالرحمن

عبدالرحمن منيف الولد الاول للزوجة الأخيرة لم يكن طفلا عاديا كان ذكيا وألمعيا بشهادة اهله.. واخواته واصدقائه ولكن على قول اخته نورة (عبدالرحمن لم يكن طفلا عاديا.. ولكن مادام والده هو ابراهيم المنيف فلابد ان يكون هكذا).. فأبي يرحمه الله كان يغرس فينا وفيه المعرفة منذ البدايات.. حتى انه كان يطلب من اختي رقية احضار الصحف يوميا لان القراءة كانت زاده.. ولهذا عوّد فطريا كل ابنائه على القراءة.. ولهذا احببنا القراءة كل حسب اهتمامه..

 --

هكذا تبدأ الحكاية..
يدخل ابراهيم المنيف تجربة التجارة, والسفر, يعرف حياة أخرى غير كل ما عرف في بيئته الضيقة والصغيرة, يرى عوالم جديدة ويعرف وجوها مختلفة, ويتعرف على الرجال الذين نزحوا الى هناك فأعجبهم المقام واستقروا.. يسمع منهم تفاصيل الحياة في حالاتها المختلفة ويدخل معهم في مغامرات تجارية جديدة.

يتعرف على الحياة في اشكالها المتعددة ويرتبط عضوياً بالناس هناك في معايشة دؤوبة لاكتشاف معارف واكتساب تجارب جديدة وفي ظل زحمة هذه الحياة.. وكثر هذا الترحال.. نوى ابراهيم المنيف في احدى رحلات عودته وهو مار بالمدينة المنورة أن يتزوج وبالفعل تزوج امرأة قصيمية من سكان المدينة.. واستمر معها فترة من الزمن ثم تزوج بعد ذلك باحدى بنات عيون الجوى, وهي فاطمة العساف وهي الزوجة الرئيسية في حياته والوحيدة التي قاسمته الحياة من حوالى 1912 وحتى وفاتها عام 1932م.. وبالتحديد يوم 27 رمضان.

ولكنه خلال هذه الفترة كما تقول ابنته نورة.. (لقد تزوج والدي خلال زواجه بوالدتي حوالى اربع زيجات بنساء كلهن من بلاد الشام وهن فايزة العجلاني ورشيدة ام عبدالله ومريم وبدرية.. وقد عشن معه فترات مختلفة.. ولكنه عندما قرر الذهاب فجأة الى عمان وقد كان تاجراً من أكبر تجار دمشق لم تكن معه سوى زوجته الاخيرة نورة الجمعان).

الرحيل الى عمان

فجأة ودع ابراهيم المنيف دمشق وقرر الاستقرار في عمان وكان ذلك حسب ادق الروايات في بدايات عام 1932م.. وذلك بعد أن صفى تجارته في دمشق.. وبالفعل تم الانتقال وكان آنذاك قد بدأ بناء قصره الباذخ.. الذي لم يسكن به هو وأولاده سوى زمن قصير لم يتعدَ الخمس السنوات..
ولكن لماذا قرر الرحيل?
ولماذا صفى شراكته?
ولماذا قرر الاستقرار في عمان?
فلا أحد يدري الى الآن أسباب ذلك..

ومن العيش الطويل في دمشق انتقلت العائلة الى عمان.. في زمن نذر الأزمات تلوح من كل الجهات..
ولكن ابراهيم كأنه رأى نذر الرحيل تلوح في ناظريه, لذلك استمر في تصفية فرع اعماله في عمان ايضاً.. وكانت شراكته فيها مع القصيمي محمد سليمان محمد الجمعان وبدر الشناني ولكنهما لم يكونا يملكان المال الكافي لتسديد مستحقاته فاتفقوا على ان يتم تسديدها على اقساط.. فوافق ابراهيم على ذلك.

وفاة فاطمة

كانت حياة العائلة في دمشق هانئة.. وكانت رقية كبرى بناته تحضر لوالدها الجرائد كل يوم.. ليقرأها.. ويتابع ردود الفعل على الاحداث الكبرى التي تهل على المنطقة.. وكانت الصحف الهزلية هي سيدة الوقت آنذاك وكان الكتاب يعبرون بسخريتهم عن الواقع الصعب الذي ستمر به المنطقة.
ولكن فجأة وبدون مقدمات مرضت زوجته الوحيدة في ذمته آنذاك فاطمة.. وتوفيت في 27 رمضان.. كان موتها كارثياً على العائلة فكبرى بناتها رقية لم تكن تتجاوز الحادية عشرة تقريباً.

كانت تلك الفترة حرجة في حياة ابراهيم المنيف وهو يرى اولاده يفقدون امهم في عالم غريب بالرغم من ان خالتهم اخت فاطمة كانت تحاول متابعة احوالهم.

ولكن بعد شهرين من هذا المصاب حدث ما غيّر مسار العائلة فقد مرت بدمشق في طريقها الى بغداد شقيقة شريكه السابق محمد الجمعان وكانت برفقة والدتها سارة امين اغا.. وكانت عراقية الاصل وهي الشخصية التي طغت على شخصية الأم في كتاب سيرة مدينة لعبدالرحمن منيف بل انها طغت على دور الخالة في استقباله لدى توجهه لبغداد للدراسة الجامعية.

المهم.. وصلت شقيقة شريكه ووالدتها الى دمشق.. وبفعل العلاقة التي تربط الاسرتين اقترحت شقيقة زوجته الراحلة وخالة اولاده على ابراهيم المنيف ان يتزوج من نورة الجمعان.. خاصة وانها شقيقة شريكه ورجل يعرفه.. وبنت منطقته.. وهي الوحيدة المؤهلة لرعاية اولاده بعد رحيل أم أولاده.
وبالفعل تمت الخطبة وقام ابن خالتها بعد ذهابها الى بغداد لاتمام احتياجاتها من احضارها برفقة والدتها الى عمان مرة اخرى.. لتتزوج في عيد الاضحى من والد عبدالرحمن.

ولادة عبدالرحمن

بعد الذهاب الى عمان سكنت نورة في القصر المنيف معها اولاد زوجها.. وحولها الخادمات.. وصيت زوجها يملأ عمان.. واسم شقيقها يسطع بقوة.. ومرت الايام هانئة.. لتنجب بعد اسابيع ابنها البكر الذي اراد والده ان يسميه على اسم جده الأكبر عبدالرحمن.. وكان ذلك في منتصف عام 1933م. جاء عبدالرحمن ابراهيم المنيف الى الدنيا.. والثراء يحيط به من كل الجهات ويسكن في قصر لا يسكنه الا الأمراء.. ويعيش حياة تلبى فيها كل احتياجاته وطلباته.. وبعد ذلك بسنتين جاءت الى الدنيا شقيقته (خديجة) التي توفيت في زهرة شبابها في سن الثالثة والعشرين وكانت للتو قد مارست عملها بعد تخرجها من الجامعة. ولكن هذه السعادة لم تستمر طويلاً ففي غمرة حياة البهجة التي تعيشها العائلة عاودت الوالد اعراض اصابة قديمة, وبدأت حالته الصحية في التدهور ويروي الاستاذ محمد القشعمي هذه القصة في كتابه (ترحال الطائر النبيل) كالتالي (وفي احدى تنقلات ابراهيم بين العشائر ومضارب البادية في سوريا لشراء الماشية انقلبت به السيارة واصيب بكسر في الحوض عام 1926م وتعالج, الا ان هذه الاصابة ادت الى تسوس العظم وظهور (القيح).. 

كان الألم مريراً, وكان الاطباء في المستشفى الطلياني في عمان يحاولون بقدر امكاناتهم المتاحة في ذلك الوقت وقف النزيف الداخلي.. ولكن النزف كان مستمراً والالم قاهراً)..

واثناء ذلك جاءت الى الدنيا آخر بناته (حصة) وكان ذلك تقريباً في شهر اغسطس من عام 1936م.. وبعد ذلك بحوالى ثلاثة اشهر ونصف اي في شهر نوفمبر عام 1936م.. رحل الوالد ورب العائلة.. وعمر عبدالرحمن حوالى الاربع سنوات.. لتبدأ رحلة المعاناة والقهر والتيه..

عبيدان والوصاية

وهكذا رحل الوالد..
وهكذا سيعيش ابناؤه حياة المعاناة..ولكن قبل وفاته التي يبدو ان اعراض القيح التي عاودته بشدة جعلته يستشرفها مبكراً اوصى على ابنائه عبيدان القحص.. وكان قصيمياً يعمل لدى الأمير شاكر بن زيد.. وبفعل العلاقة التي تربط ابراهيم المنيف بالأمراء في عمان.. وبالذات شاكر بن زيد تعرف على عبيدان.. ووجد فيه الرجل الذي يمكن ان يوصيه على اولاده وثروته..

ومحاولة لتقريبه وزيادة اهتمامه بأولاده منحه قطعة ارض بجوار قصره.. ووعده بالمساعدة في بنائها.. وبالفعل تم ذلك وأخذ عبيدان قطعة الارض والمعونة.. وحق الوصاية التي جاءت بعكس ما يتوقع الجميع وأولهم ابراهيم.. وابناؤه.

الولادة.. في ذاكرة منيف

للأحداث السابقة حضور مباشر في حوارات عبدالرحمن منيف أو في كتابه (سيرة مدينة).. ولكن للاسف هناك ارتباكات كثيرة وخلط للشخوص والازمنة.. فحسب حواره الذي اجراه معه الشاعر ممدوح عدوان في مجلة الهدف يقول منيف (ولدت في عمان عام 1933, والدي من نجد وأمي عراقية.. و الدي انتقل من نجد الى العراق وسوريا والاردن بحثاً عن الرزق.. خلال رحلات الوالد مع الاسرة كانت هناك محطات استقرار مؤقت.. في احـدى هذه المحطات.. مات).

فأولاً أمه لم تكن عراقية ولكنها من عائلة الجمعان القصيمية المعروفة ولكن جدته لأمه هي العراقية وعمان لم تكن محطة رحيل من المحطات التي يعبرها والده باتجاه محطة جديدة ولكنها محطة استقرار.. ولذلك صفى تجارته مع شركائه من اجلها.. والأهم بنى القصر المنيف بها وكأنه يريد ان يكون مستقر حياته الاخير.. اما وفاة والده فلم تكن بهذه الصيغة ولكنها تداعيات لأعراض مرض قديم يراوده بين حين وآخر.. وكانت قمة تفجره في محطته التي أرادها أخيرة..وللولادة والموت..
وما بينهما الحياة تفاصيل غريبة ومؤلمة تقرأونها في الحلقة القادمة. 
- -
وهذا هو عبدالرحمن ابراهيم المنيف.. 
تاريخ عبدالرحمن منيف.. تاريخ ملتبس وغامض..
والتاريخ الذي سرده في (سيرة مدينة) وفضفض عنه في بعض حواراته وكذلك التاريخ الذي كتبوه عنه وباسهاب كان دائما مرتهنا لرواية عبدالرحمن الاولى, ولذلك جاء ملتبسا..

وهنا لا ندعي كتابة الحقيقة المطلقة, ولكنها الحقيقة التي توصلنا لها, ومن عدة وجوه وعدة روايات خاصة وان الاستاذ منيف يرفض التعليق على ذلك, ويؤجل الاجابة على الاستفهامات الى الغد..
ولكي لا نبالغ فان الوصول الى الحقيقة احتاج منا الى نبش ذاكرة الماضي.. وذاكرة الذين تحدثوا لنا واكثرهم كان مستعدا للاجابة ولكن بدون الاشارة الى اسمه ضمن مصادرنا, ووافقنا على مضض لان هدفنا الحقيقي هو كتابة سيرة عبدالرحمن منيف الحقيقية وليس مصادر هذه السيرة.

نقطة التحول

من خلال استكناه النصوص والروايات المتعددة نجد كما قلنا سابقا ان وفاة والده كانت نقطة التحول, او الصدمة الاولى والكبرى في حياته, فالطفل الذي كانه, والذي ولد في قصر وفي فمه ملعقة من ذهب, وجاء مبكرا لام تزوجت فيما بعد العشرين على غير عادة تلك الازمنة ففرحت امه به كثيرا هذا الطفل والولد الاخير لرجل جرب الترحال وقرر الاستقرار هو عبدالرحمن منيف, ولذلك جاءت تداعيات ما بعد وفاة والده كارثية في حياته فهو لم يفقد حنان الابوة فقط, ولكنه عاش حياة اخرى غير ماتعود عليها أما الشيخ عبيدان القحص الذي اشرنا له في الحلقة الماضية ونصبه الوالد وصيا على عائلته وثروته, والذي لم يشر له سوى استاذنا القشعمي حيث ألمح له باقتضاب وذلك بقوله (وقبيل وفاته اوصى على ابنائه القصر (الشيخ عبيدان القحص)) القادم من رياض الخبراء في القصيم واحد كبار العقيلات في عمان وفي عام 1938م وبعد وفاة ابراهيم قام الوصي بتأجير بيتهم على الجنرال (كلوب) قائد الجيش الاردني المعروف باسم (ابو حنيك) وتفرقت العائلة الى عدة منازل فانتقلت ام عبدالرحمن (نورة الجمعان) واولادها الى بيت مستقل وكذلك باقي ابنائه.

ودفن ابراهيم في مقبرة اهل نجد قرب رأس العين بجوار سوق الحلال بعمان عام 1936 تاركا اربعة ابناء هم:

1- عبدالله وتوفي عام 2001م بعمان وله من الابناء ابراهيم ومنيف ومنير وماجد ومأمون.
2- علي وتوفي عام 1977 بدمشق وله بنت واحدة وقد اهدى له اخوه عبدالرحمن.. (التيه) قائلا: (الى علي منيف.. الذي رحل قبل الاوان).
3- فهد وتوفي عام 1965م وله ثلاثة ابناء محمد وجمال وابراهيم.
4- عبدالرحمن الذي ولد في عمان عام 1933م اطال الله عمره وله من الذرية ابنان هما: ياسر وهاني.. وبنتان هما: عزة وليلى.

رواية عبدالرحمن عن القحص

اما عبدالرحمن منيف نفسه فتعامل مع هذه الاحداث بحياد تام وخاصة في كتابه (سيرة مدينة) الذي اورد فيه سيرة عبيدان القحص للمرة الاولى والاخيرة في كل ما نشر حتى الآن.. حيث تعامل معه كشخص من شخوص المدينة فعنه يقول بحياد تام (في اليوم التالي, في الصباح الباكر, سيأتي عبيدان وباختصار شديد سيقول:

- يا لله

وذهبنا معا, كان عبيدان صامتا طوال الوقت, وكان الطفل يسير وراءه على مسافة خطوة وكان صامتا ايضا, سوف ينزلان الدرج الواحد وراء الآخر, ويستقبله الشيخ حافظ (ولحافظ في السيرة تفاصيل اكثر سوف نعرف الكثير عنه في الحلقات القادمة) بتساؤل, ولان ليس لدى عبيدان الكثير ليقوله, بعد التحيات والسؤال عن الصحة والاحوال فقد سلم الطفل بطريقة احتفالية:

- يا شيخنا: اللحم لك والعظم لنا, وهذا عندك امانة!.
وقبل ان ينصرف قال بطريقة صارمة وهو ينظر الى الطفل:

وان شاء الله اسمع انك غلطت او قصرت, فعبيدان حسب رواية عبيدان كان تقليديا ومتسلطا..
وكذلك يتناول عبدالرحمن.. عبيدان في روايته فيقول (يؤكد راضي ابو الشوارب ان عبيدان قتله ابو حنيك.. وحين يردون عليه ان الرجلين كانا صديقين ولا يعقل ان يقتل الصديق صديقه يرد وهو يبتسم بسخرية:

الانجليز يا جماعة الخير, مالهم صاحب, وابو مسفر الله يرحمه راح معهم بعيد, بعيد, صار يعرف اسرارهم ورجالهم وهذا ما يهون عليهم..

وحين يبدو كلامه غير مقنع, يتابع, وقد تغيرت نبرة صوته:
الدكتور ملحس قال (خلوه بالبيت وانا اشرف على علاجه, وعلى يدي, وبمشيئة الله يشفى ولكن عندما عرف كلوب قال: الكرنتينا احسن, قال هذا الكلام وبعث رجاله واخذوا عبيدان.

هذا هو كلوب باشا

عبدالرحمن منيف تعامل بشكل محايد تماما مع كلوب.. والقصر الذي صار يسكن به حتى انه وصفه قائلا (عند تلاقي الطريق النازل من جبل عمان, من ناحية الشمال الغربي بطريق وادي السيد وعلى بعد امتار من قيادة الجيش, مقر كلوب باشا, وغير بعيد عن المفوضية الانكيلزية ثم السفارة بعد ذلك كانت المدرسة العبدلية).

ويعود بعد ذلك لذكر كلوب بقوله: (اما حين وقعت هزيمة مايس, وهرب رشيد عالي ورفاقه, وعرف الناس اكثر فأكثر ما فعله كلوب, فقد احسوا بالاهانة والغضب خاصة بعد ان القي القض على قادة مايس وسيقوا من ايران الى بغداد ليعدموا فيها, اذ لم يبق احد خارج دائرة الحزن الاسود والمرارة القاتلة, واصبحت شتيمة ابو حنيك على كل لسان.

بعد ذلك والى ان يطرد كلوب من عمان عام 1956م ورغم المحاولات التي بذلها وكانت زوجته تشاركه لاقامة علاقات او لتحسين صورته ظل ذلك القاتل المخادع والمكروة.

هذه هي الحقيقة

فردنا المساحة كاملة لما يقوله منيف عن عبيدان وكلوب واستمعنا لرواية القشعمي في كتابه (ترحال الطائر النبيل) ولكننا بعد ذلك سوف نصوغ الحكاية حسب ما وصلت لنا من اكثر من مصدر ونعرف كيف كان الالم قاهرا.. .. ومتى كان كلوب باشا كارها للشيخ عبيدان ودوره في الدفاع عن حقوق السعوديين في عمّان وهذا ماأكده عبدالرحمن منيف في قوله ان ابو حنيك قتل عبيدان لانه صار يعرف عن الانجليز ومؤامراتهم ورجالهم الشيء الكثير وهذا ما استفزه وجعله أي ابو حنيك يتخلص منه ويخفي ماكان يعرفه من معلومات برحيله.. أما تفاصيل علاقة ابناء المنيف مع القحص فهذا ماكان غامضا فيما اشرنا اليه وهذا ما احجم عبدالرحمن منيف.. عن البوح به حتى الآن..  
--


نحن الآن في عمان 1932م..
وصل لها ابراهيم المنيف برفقة عائلته, يريد الاستقرار موقتا ريثما ينتقل الى محطة أخرى, والعيش برفاهية, في قصره الفخم, ولكن الاحداث المتسارعة جاءت بعكس ما يريد, وفي خضم هذه التداعيات وفي اطار علاقاته الواسعة بالأمراء والأغنياء في عمان التي يستقر بها هذه المرة وتسبقه الشهرة, بعد ان ذاعت سيرته, وعرفه الجميع كأحد كبار رجالات عمان..

وفي تلك الأيام السريعة عرفه كثيرون, وكان منهم الشيخ عبيدان القحص الذي عرفه كما قلنا في الحلقة السابقة عن طريق الأمير شاكر بن زيد كما روت لنا كبرى بناته الأحياء نورة ابراهيم المنيف..
وتحت وطأة الخوف من الرحيل المفاجئ, وفي ظل ثقته الكبيرة بعبيدان نصبه وصياً على ثروته وابنائه.. وبعد ذلك حدث ماحدث للعائلة.

أبو حنيك يقتل عبيدان

في شهر نوفمبر 1936م رحل ابراهيم المنيف.. في المستشفى الطلياني بعمان كما قلنا سابقا.. وكان عمر ابنه عبدالرحمن بطل سيرتنا هذه حوالى الاربع السنوات.. طفلاً نهل من الحنان والثراء من كل الجهات ولكن هذه الطمأنينة وهذا الرخاء لم يستمر سوى اشهر قليلة بعد رحيل والده..

والقحص الذي كان جادا من جهة وحريصاً من جهة أخرى على اولاد وصيه بدأ في الحفاظ على ثرواتهم بالتقنين في مصروفات عبدالرحمن وأمه وأختيه.. وبعد ان كانت العائلة تصرف كما تريد حدد دينارين ونصفا شهرياً يسلمها لأم عبدالرحمن نورة الجمعان.. لتصرف بها على اولادها..تحملت الاسرة هذا الوضع على مضض لانها لم تتعود على التقنين..

وكما تقول البنت الصغرى (حصة المنيف): إن أمي تحملت هذا الوضع لأن لا قدرة لها ولا لغيرها على تغيير الوضع.. الذي غيّر حياتنا تماما وكان عبدالرحمن اكبرنا آنذاك اكثر من احس بذلك بكل تأكيد.

وبالفعل استمر هذا الوضع وبلغ حداً لا يطاق في نظر ابناء المنيف, خاصة وان الابناء كبروا ودخلوا المدارس واصبحت احتياجاتهم في تنام مستمر..

ولتوفير الاحتياجات كما يبدو وافقوا على الخروج من قصرهم الفخم الذي كان آخر ملامح الثراء التي تبقت لهم للحصول على مبالغ اضافية.. وقد تم ذلك بسرعة تحت موافقة نورة الجمعان والدة عبدالرحمن وباقي الابناء وفي غضون ايام أجر لهم بيت شعبي نقل له نورة واولادها.. واولاد زوجها من فاطمة العساف.. وكان المستأجر لهذا القصر هو كلوب باشا قائد الجيش الاردني في ذلك الوقت والبريطاني الأصل.. الرجل المشبوه الذي طرد من الأردن عام 1956م بعد ان اكتشف الجميع مؤامراته وخياناته, وقد المح لذلك عبدالرحمن منيف حيث ذكر في (سيرة مدينة) القصة التالية التي نشرناها امس: (يؤكد راضي ابو الشوارب ان عبيدان قتله ابو حنيك (كلوب باشا), وحين يردون عليه, ان الرجلين كانا صديقين, ولا يعقل ان يقتل الصديق صديقه, يرد وهو يبتسم بسخرية:
الانكليز, يا جماعة الخير, ما لهم صاحب, وابو مسفر الله يرحمه, راح معهم بعيد, بعيد, صار يعرف اسرارهم ورجالهم, وهذا ما يهون عليهم.

حصة المنيف.. تتذكر

ولاستجلاء تفاصيل هذه الاحداث المهمة توجهنا للسيدة حصة ابراهيم المنيف شقيقة عبدالرحمن وآخر العنقود بين ابناء ابراهيم فردت قائلة:

(توفي والدي في المستشفى الطلياني بعمان وكان عمري آنذاك لا يتجاوز الاربعين يوماً (في رواية لاختها الكبرى نورة ان عمر حصة عندما توفي والدها كان ثلاثة اشهر تقريباً).. وبالتالي فإني لا أذكر شيئاً عن حياة الترف السابقة, ولكني عرفت ملامحها من ملامح الاسى على اخواني الاكبر مني). وهل كان ذلك الاسى واضحاً: سألتها فردت السيدة حصة المنيف قائلة: عشت سنتين في قصرنا الفخم وبعد ذلك انتقلنا الى بيت شعبي, وهناك احسست تماماً بالفرق, وبدأت المعاناة بتزايد احتياجاتنا, وخذلان الجميع لأمي, التي تحملت لوحدها مسؤولية تربيتنا بمساعدة الوصي الشيخ عبيدان, وقد بلغ بها الامر عندما تزايدت عليها الضغوط, واوشكت مقتنياتها التي اهداها لها أبي أن تنقضي وهي تبيعها من اجل الصرف علينا, وهي تبيعها بين حين وآخر, خاصة وان الدينارين والنصف لا تكفي لاسبوع واحد فكيف لشهر واحد, أن قررت بيع ما تبقى لديها من مقتنيات وشراء ماكينة خياطة عملت بها صيفاً وشتاءً, ليلاً ونهاراً من اجل ان نعيش حياة معقولة ونكمل دراستنا.


لنورة.. رواية أخرى


وترسيخاً لهذه المعلومات حملنا ما لدينا لنورة عبدالرحمن المنيف أكبر أبناء ابراهيم المنيف الاحياء وسألناها عن تفاصيل ما حدث بعد وفاة والدهم فردت قائلة: (توفي الوالد بعد اربع سنوات من مجيئنا الى عمان وكان عمر أخي عبدالرحمن وقتها اقل من اربع سنوات, فالوالد توفي في شهر 11 من عام 1936م وكان عمر حصة ثلاثة اشهر. وكان والدي من اكبر اغنياء عمان وقتها ولكن عدنا الى الوراء مادياً, وصرنا نسكن في بيت شعبي بسيط بعد ان كنا نسكن قصراً, وسكن بهذا القصر ابو حنيك.. ولهذا صارت حياتنا حياة تقشف وكل شيء (بالنقطة).

- لابد انك واشقاءك عانيتم أكثر لأنكم كنتم يتامى الأب والأم.

* الله يعلم ان نورة الجمعان أم عبدالرحمن كانت أماً لنا.. وكانت أكثر الناس شفقة علينا.. حتى عندما اخرجنا من قصرنا اخذتنا معها ولكننا لم نستمر طويلاً في السكنى معاً, خاصة بعد ان تفاقمت الخلافات بينها وبين شقيقتي رقية (يرحمها الله) وكانت آنذاك في الثامنة عشرة من عمرها..
وحينها انتقلت خالتي نورة الجمعان وأولادها ليسكنوا في بيت آخر, واعتقد انها بنت البيت في ارض والدي بالجبل.
- هل عانت خالتكم نورة في تربية اولادها?
* أي والله عانت حتى انها باعت ما تبقى لها من ذهب لتشتري ماكينة خياطة وتصرف عليهم ليكملوا تعليمهم..

ما هي الحقيقة?

مما سبق ومن روايات مضمرة لم نذكرها, فإن صدمة عبدالرحمن بوفاة والده أولاً وبقسوة الواقع المعاش ثانياً.. ومن ظروف المعاناة التي عاشتها والدته وعاناها مع اخوته واخواته جعلته يحس بالقهر والظلم والاضطهاد.. خاصة وانه يعيش في مدينة كل من فيها يتغنى بثروة والده..

فأمه تعاني.. وحياته تتغير وهو ينتقل الى بيت آخر.. ومعلمه في الكتاتيب يقسو عليه بشدة.. خاله الجمعان لم يوافق على الوكالة عنهم.. وكلوب باشا المكروه من الجميع يسكن في القصر الذي كان له ولاخوته..كل هذه الاحداث صنعت عبدالرحمن.. آخر.. عبدالرحمن يحلم.. ويحلم.. ويريد لحلمه ان يعيش على ارض الواقع وهذا ما سنعرفه في تفاصيل الحلقات القادمة.. حيث نتحدث عن المدرسة العبدلية.. وتحولات الأحداث.. وزواج البنات..حين نكشف المستور وليعذرنا الجميع.. فعبدالرحمن منيف ذاكرة للجميع وليس لنفسه فقط.. اما الرؤى التي يختلف عليها الجميع فهي قابلة للاختلاف دائماً ونسعى لتصحيح كل ملتبس منها.. ونكشف الحقيقة.. الحقيقة فقط هي الغاية من كل هذا الغوص الطويل في الماضي الملتبس..
الماضي الملتبس تماماً..
أما قصة عبدالرحمن فهي تحتاج لرواية أخرى لوحدها.. 


 --


عبدالرحمن منيف طفلا..
وذلك بالتحديد بعد ان ودع القصر الفخم ليسكن بيتا شعبيا من عامة بيوت عمان, ولكن والدته, نوره الجمعان كانت مصرة على ان يتعلم بل ويكمل تعليمه الى اقصى ما تستطيع, ومالاتستطيع.

وبالفعل فور تجاوزه الخامسة, وكان ذلك حوالي العام 1938م, قدمت والدته اوراقه للمدرسة العبدلية في عمان, ولكن الطفل عبدالرحمن لم يقبل لصغر سنه على ان يعاود التقديم في العام التالي ولكن أمه لم ترد ان تحرمه شغف المعرفة فقررت ان يستغل هذه السنة في التعليم على يد اصحاب الكتاتيب واختارت له الشيخ حافظ ولكن الطفل عبدالرحمن لم يكن يستطيع ان يودع العبدلية دون ان يرى الشجرة المذهلة التي يتحدث عنها الجميع وخاصة اقرانه في الحي الشجرة التي تثمر لوزا ومشمشا في آن واحد, الشجرة التي لاتوجد الاّ في المدرسة العبدلية, ولذلك وبعد ان حرم من الدراسة عز على نفسه ان يحرم ايضا من رؤية الشجرة العجيبة ومعايشتها والتي كانت تخطر في باله بشدة بعد أن سمع عنها لذلك استغل فترة خروجه من المدرسة لرؤيتها ويوصف عبدالرحمن منيف تلك اللحظات, ولحظات انتسابه الى كتاب الشيخ حافظ بلغة رهيفة حين يتذكر قائلا (اخذ الطفل الذي لم يقبل في المدرسة العبدلية, لصغر سنه, لكي يرى الشجرة العجيبة, هكذا قيل له في ذلك الصباح.

نزل الدرجات العشرين الحادة, العالية اكثر من درجات اخرى, فوجد الباب مفتوحا, رأى اطفالا يكنسون الباحة الفسيحة, واحدا يرش الماء واثنين يكنسان. قالت له امه: انظر! رأى الشجرة, رأى اللوز في جانب والمشمش في جانب آخر, تمعن بالاوراق فوجدها مختلفة من جهة ثانية, نظر بإمعان الى الساق ليتأكد ان ليس في الامر خدعة او خطأ: الساق واحد, ومنه تتفرع الاغصان, اما الثمر فنوعان مختلفان. فرح كثيرا في داخله لهذا الاكتشاف.

عبدالرحمن منيف.. والشيخ حافظ

ويستطرد عبدالرحمن منيف في استعادة ذلك الماضي في (سيرة مدينة بتوسع حيث يقول بعد ان سلمت امه على الشيخ حافظ ثم على ام امين وامينة, وكان الطفل مشغولا بالشجرة العجيبة, وبعد ان تأكدوا اطمأن, كاد ان يعتبر الزيارة انتهت, ويمكن ان يغادر كما جاء, لكن الشيخ حافظ طلب اليه بحزم, اقرب الى الامر, ان يدخل الى الصف, اذهلته المفاجأة, فهو لم يأت لكي يصبح تلميذا في هذا الكتّاب, لكنه لم يقو على الاعتراض بصوت عال, نظر الى امه طالبا ان تقف الى جانبه وتمنع هذه الكارثة, لكن امه لاول مرة, تبدو مختلفة, شعر انها تتخلى عنه, تتركه وحيدا في مواجهة هذا الرجل الذي سمع عنه كثيرا قبل أن يراه. كاد ان يقول شيئا. كاد ان يمتنع, لكن كلمات الشيخ, وكانت اوضح من المرة الاولى, لم تترك له اية فرصة.

قال له:
- امش قدامي!

حين نظر الى اأمة في محاولة اخيرة لان تكون معه, لان تحميه قالت وهي تحاول الابتسام.
- سيدك الشيخ حافظ راح يعلمك القراءة والحساب, وراح تصير اشطر من اخوتك.
وبطريقة خفيفة, دون تهديد, اهتزت الخيزرانة في يد الشيخ, وحين تحرك لم يجد الطفل مفراً الا ان يتحرك امامه.
انه اليوم الاول في الكتاب!

ولم يكن الشيخ حافظ يكتفي بدور المعلم في (كتابه) ومهمة المشيخة الدينية بين الناس بل كان يقوم بدور الطبيب لانها الاكثر دخلا من التعليم في ظل قصور الخدمات الطبية في عمان بذلك العصر وقد وصف عبدالرحمن منيف تلك المشاهد باسلوب ساحر, ساخر بقوله (اما الشيخ حافظ فلايرقى الى هذا المستوى يقصد الشيخ صالح المعاصر له والاكثر شهرة منه في عمان) كما لايتعامل بالقضايا (الكبيرة) اذ كانت مهمته مقصورة على كتابة الحجب, ومعالجة الامراض البسيطة, خاصة ما يتعلق منها بالكآبة والحزن والخوف. اضافة الى البطالة الطويلة وسوء الطالع.
كان الشيخ حافظ يكتب اوراقا تتضمن آيات وادعية ولاتخلو من ارقام بعد ان ينتهي من كتابتها يضعها في غلاف جلدي يحسن صنعه وكان آل المريض في احيان كثيرة, يضيفون الى الحجاب فرزة زرقاء وشبّة وفي حالات معينة سن ذيب. لقاء ذلك كان الشيخ يتلقى مقابلا بسيطا ولامانع ان يكون عينا, مثل كمية من القمح او العدس او الزيت ويستطرد منيف في وصف مفارقات وجوده في (كتاب) الشيخ حافظ بكتابه (سيرة مدينة) ويصف حالات غريبة من الدهشة والاحباط واليأس.

الشيخ سليم.. والعبدلية

ويستمر عبدالرحمن منيف في (كتاب) الشيخ حافظ او السجن الاول في حياته كما يقول الى ان ينتقل الى كتاب الشيخ سليم تحت الحاح من خاله وشريك والده السابق محمد سليمان الجمعان.. الذي كان عارفا لعدم قدرة الشيخ حافظ على افادة ابن اخته بأية معلومة او فائدة.. وقد لخص عبدالرحمن منيف ذلك بامتحان خاله له حيث قال في سيرة مدينة (ذات يوم جاء احد الاقرباء, وكان يعمل بالتجارة, ولما عرف ان الطفل ارسل الى مكتب الشيخ حافظ ضرب كفا بكف أسفا, وبعد ان هز رأسه عدة مرات, وليثبت خطأ هذا القرار, اجرى امتحانا للطفل:

- صار لك شهور في المكتب وتعلمت الكثير, واريدك الان ان تقول لي: ايهما اثقل كيلو الصوف ام كيلو الحديد!
اجاب الطفل, بارتباك, ان كيلو الحديد اثقل, ويعاود القريب السؤال بالصيغة ذاتها, لكن ببطء لكي يتيح فرصة اطول للتفكير والمقارنة ويصر الطفل, لايعرف لماذا, ان كيلو الحديد اثقل.

ويعاود القريب السؤال, ولكن لايتوجه هذه المرة الى الطفل, وانما يتوجه الى الآخرين, وحين تبدو الحيرة على اكثر من وجه يقول هذا القريب:

- يامستر خص اللحم عند المرق تندم ويشرح للطفل, للحاضرين, ان الكيلو هو الكيلو, سواء كان حديدا ام صوفا, ذهبا ام ترابا. ويستغرب اكثر الحاضرين لكنهم يصمتون!

وفي نهاية الزيارة يصر هذا القريب, على ضرورة انتقال الطفل الى مكتب الشيخ سليم, لايكتفي بهذا الاصرار, يتعهد ان يتولى الامر بنفسه, وهكذا تبدأ الرحلة الثانية, السجن الثاني, والذي لايمكن مقارنته بأي سجن اخر. وتفاصيل هذه الرحلة او السجن يمكن لمن يريد الاطلاع عليها قراءة (سيرة مدينة) بتمعن.. ومن هذه التجربة او السجن, التي تستمر اشهرا يدخل عبدالرحمن منيف الى المدرسة العبدلية حيث تبدأ مرحلة جديدة في حياته.

الطفولة معاناة.. والعالم هلامي

في هذه الاجواء, بيت شعبي يشرف عليه من بعد وصي قاس, وتعوله ام لاحيلة لها في التصرف في ثروة زوجها سوى الاشتغال على ماكينة الخياطة, والحلم بمستقبل اولادها, وطفل هو عبدالرحمن يعيش حياة عذبة مع شقيقتيه ومضطربة مع العالم من حوله.. يدخل عبدالرحمن المدرسة العبدلية ويصف هو هذه الاجواء بعيدا عن ألق التذكر.. ولكن تحت سطوة الاستعادة. منذ ان كنت صغيرا كان يبدو لي العالم هلاميا, وكان يفترض بكل انسان ان يساهم, بشكل ما, في اعطاء هذا العالم ملامح معينة كنت اتمدد ساعات متواصلة على الارض وانا ارقب غيوم اواخر الخريف: كيف تتكون, كيف تتداخل كيف (تلعب) واصر على هذه الكلمة الاخيرة.. كنت اتمنى ان افعل مثلها فالسماء وبالتالي الغيوم, هي انعكاس للارض, للبشر, ولذلك افترضت ومنذ ذلك الوقت المبكر, انني قادر على اعادة تشكيل العالم, وأنه مطلوب مني ذلك!

لما تجاوزت الطفولة وبدأت الصبا, اصبحت القوة بالنسبة لي هي الصيغة التي تساعدني في اعادة صياغة العالم, ولذلك ذهبت بعيدا في اعادة تشكيل جسدي, من خلال الرياضة, من خلال التحدي, وايضا بمحاولة ان اكون جزءا من مجموعة وصلت الى نتائج متواضعة لم تقنعني ولذلك بدأت البحث من اجل الوصول الى تلك (القوة) التي تساعد في اعادة صياغة العالم.

ويتواصل سرد عبدالرحمن منيف لذلك الواقع بوضوح شديد حيث يقول (بدون تفاصيل كثيرة اتصور اننا كجيل ولدنا وعشنا في بيئات بدائية الى حد كبير, العلاقة مع الطبيعة او العناصر الاولى هي علاقة مباشرة, علاقتنا مع المدينة بمفهومها المتطور علاقة متأخرة وبالتالي كان كل شيء يجري امام اعيننا بشكل واضح ومباشر. المدينة التي ولدت فيها مثلا (عمان) كانت في الفترة اتحدث عنها, عبارة عن قرية شوارعها غير معبدة ولاتزال الطبيعة البكر الاولى هي الاطار الذي يتحرك الناس ضمنه حتى الطبيعة بمعناها العدواني القاسي كمجيء السيول مثلا او عندما يسيطر الجفاف, فان ذلك اكثر من قدرة الناس على الاحتمال وكذلك عندما يأتي الجراد اي ان الحياة كلها على تماس مع الطبيعة المباشرة, ومن هنا فان من يرى واقع المدينة الان ربما لايدرك المدينة في فترة ابكر, كيف كانت وكيف تغيرت طبيعي حتى التغير يمكن ان يكون شكليا, هذا موضوع آخر, ولكن كحجم, كطبيعة.. وعلاقات اختلفت.
وهكذا نرى عبدالرحمن منيف الطفل, يخرج من واقعه القاسي قياسا لما كان يحلم به, ويغرق في احلامه من وجهه ويفجر فورة اشتعالاته بالرياضة وممارسة الصيد البري من جهة اخرى.

مما يجعله يخرج من دائرة ابن التاجر السابق الى (ولد المنيف) او (عبدالرحمن مُنيف) كما بدأ اسمه يتكرر بين اقرانه وزملاء دراسته.  
--


ومرة ندخل الى ذاكرة الامس ونحاول ترتيب تفاصيل الحكاية, مستعينين في اكمال الصورة بالشواهد وروايات الشهود ولهذا فاننا في كتابة هذا التاريخ نتحمل وحدنا كيفية نقله وعما رووه لنا من يعرفون سيرة ومسيرة المنيف من القصيباء حتى شرق المتوسط..

هذه كلمة اولى.. قبل ان نكمل مشوار عبدالرحمن منيف الدراسي في المدرسة العبدلية.. وما بعد نتوقف مرة اخرى عند ملاحظة وجيهة حول حقيقة الاستقرار المؤقت او النهائي في عمان بسبب تضارب الروايات التي اكدها بناء قصر فخم هناك.. مما يوحي للجميع برغبته في الاستقرار والبقاء..
وتجيء تفاصيل هذه الحقيقة من حفيد ابراهيم المنيف.. الاستاذ ابراهيم بن عبدالله بن ابراهيم المنيف..
الذي يقول مؤكدا رواية عبدالرحمن منيف حول هذه الجزئية وذلك بقوله: عمي عبدالرحمن عندما ذكر بقوله عن جدي ابراهيم المنيف (كانت هناك محطة) استقرار مؤقت.. في احدى هذه المحطات مات.. اكثر من صحيحة.. فرواية عن والدي (عبدالله ابراهيم المنيف) اكبر الابناء والذي كان يعمل مع الوالد في محل تجارته بعمان وعندما كان يافعا روى هذه المعلومة وهي ان جدي ابراهيم المنيف اشترى بيتا معروفا الى زمن قريب في المدينة المنورة (عام 26-1927) وهو قصر كان يملكه العصيمي باشا خلف مكتبة حكمت عارف.
وكان وكيل جدي بالمدينة آنذاك المرحوم الشيخ عبيد العامر.

اسباب القدوم الى عمان

ويضيف الاستاذ ابراهيم (وحسب رواية والدي فإن جدي جاء الى عمان لان شريكه بأعماله وأخا زوجته الجديدة محمد السليمان الجمعان كان مقيما بعمان. كما ان لجدي محلا لبيع الارزاق, في الكرك مع شريك آخر..

واؤكد هنا قصة حادث السير الذي تعرض له جدي ونشرها الاستاذ محمد القشعمي في (ترحال الطائر النبيل) وهي قصة الحادث الذي حدث لجدي قبل سنوات في سفرة له ببادية الشام لابله والاغنام التي يملكها.. واثرت هذه الاصابة على صحته.. وكما قال عمي عبدالرحمن في سيرة مدينة فإن جدي كان يتعالج في المستشفى الايطالي بعد ان عاودته اعراض هذه الاصابة.

وقد توفي جدي يرحمه الله في عمان وتم دفنه في مقبرة كانت تسمى رأس العين.. مكان سوق الابل الذي كان للعقيلات.
اذن.. فإن جدي كان ينوي السفر مرة اخرى للاقامة في المدينة المنورة.

المانيا النازية.. واسباب الخسارة

ويستطرد الاستاذ ابراهيم المنيف في تفسير بعض الجوانب حول اسباب الحاح جده ابراهيم على تصفية بعض اعماله والحصول على اكبر قدر من السيولة بقوله (حسب رواية الوالد يرحمه الله) فإن جدي كان ميسورا ويتعامل بالعملات الاجنبية آنذاك وحسب قوله بعملة المانيا تحديدا, ولربما ان امور الربح والخسارة قد كبدته بعض الخسائر..

ويحدد الاستاذ ابراهيم وضعه المالي بالتحديد عندما جاء الى عمان بقوله رواية عن والده عندما بنى جدي القصر بعمان كان يملك معظم الاراضي التي بالجبل.. المعروف بجبل عمان.. والذي استأجره جلوب باشا في عام 36-1937م.

ويختتم الاستاذ ابراهيم توضيحه بقوله (مرة اخرى كان جدي متجها للمدينة المنورة للسكن في بيته الجديد وحسب رواية والدي التي اكدها لي المرحوم الشيخ عبيد العامر وكيل جدي بالمدينة قبل 25 عاما. وهذ البيت المعروف بالمدينة (بيت العصيمي باشا) تم بيعه من قبل الوصي (عبيدان القحص) عام 40-1941 واشترى مقابله للايتام بيتا معروفا في عمان, بجانب وزارة المالية الاردنية ولا يزال قائما حتى الآن.. وقد بيع بعد بيع عودة اعمامي الى بلادهم.

لماذا اختار القحص وترك الجمعان

وقبل ان ندلف الى عالم عبدالرحمن منيف والمدرسة العبدلية وما حدث بها وفيها من احداث وتداعيات.. نتوقف مرة اخرى عند جزئية وصاية عبيدان القحص او وكالته على املاك وارث ابراهيم المنيف بعد وفاته وتساؤل الكثيرين عن عدم تكليفه شريكه وشقيق زوجته محمد السليمان الجمعان بهذه المهمة ليتأكد لنا من جميع المصادر بأن ابراهيم المنيف اول ما فكر فيه كان ذلك, وقد طلب من محمد القيام بها, ولكنه رفض, وقد كرر المحاولة اكثر من مرة, ولكنه كان يرفض بالرغم من توسط العديدين وقد برر محمد السليمان الجمعان ذلك بعدم رغبته في الدخول في امر قابل للتنازع والاقاويل واقلها ان يقول البعض ان محمد جامل اخته واولادهم على حساب اخوتهم.. ولهذا لم يجد ابراهيم المنيف من وصي او وكيل على املاكه واولاده بعد ان تعاظم عليه المرض سوى الرجل الذي عرفه في اكثر المجالس التي يرتادها والذي يشهد له الجميع بالفضل والحزم. ولهذا كان خياره الاخير والوحيد.. عبيدان القحص.. والذي حاول ان يسير الامور المالية حسب رؤيته في ذلك الوقت.

من هو العصيمي باشا?

واخيرا وقبل ان نودع هذه المحطة الشائكة, والتي يرى كل طرف احداثها من وجهة نظره بينما ابطالها الحقيقيون غائبون والحديث عنهم هو حديث الذاكرة والرواية والنقل.. ولكي لا نغرق في هذا المستنقع.. ننهي هذه المحطة بالتعريف بالعصيمي باشا الذي اشترى ابراهيم المنيف قصره في المدينة المنورة عندما قرر الاستقرار بها وذلك عبر وكيله فيها الشيخ عبيد العامر.. وتؤكد جل المصادر التي تحدثت لنا ان محمد العصيمي باشا هو شيخ من شيوخ العقيلات في الشام وتعود جذوره الى مدينة الزلفي, وقد لمع اسمه بسرعة اثناء الوجود الفرنسي في الشام وقد انخرط في العمل العربي لتحريرسوريا ولبنان ببسالة حتى كان كما يؤكد الكثيرون احد قادة معركة ميسلون التي جرت في ظل الاجواء المضطربة التي حدثت بسبب تقدم الجيش الفرنسي بقيادة غورو بسبب انسحاب الجيش العربي وفي ظل مفاوضات قاسية رفضتها الوزارة السورية خرج يوسف العظمة الى 4000 جندي يتبعهم مثلهم من المتطوعين للجهاد وشارك في المعركة عدد من العقيلات تحت قيادة يوسف العظمة. وقد منحته السلطنة العثمانية في الاستانة آنذاك لقب باشا في حفل كبير اقيم في دمشق ومنح له اللقب مسؤول خاص جاء من الاستانة لهذه المهمة بالتحديد..

وللعصيمي باشا سوى قصره في المدينة قصر آخر شهير في منطقة الميدان في دمشق.
وقد اشتهر العصيمي باشا بشجاعته وعروبته المنقطعة النظير.. وفي بحثنا عن ذريته اكدت لنا المصادر انه خلف ولدا اسمه خالد انتقل من دمشق الى بيروت في الخمسينات واستمر بها مضاربا في سوق الاسهم والبورصات.. ولكن ودع بيروت مع اول اشتعالات الحرب الاهلية ليستقر في جنيف ومن ذلك الوقت انقطعت اخباره ولم نصل لاي معلومة تقودنا اليه.. ونرجو ان تكون هذه الاشارة تفتح الباب امام سيل المعلومات.. التي نحن في انتظارها.

منيف في العبدلية


وبعد هذه المحطات العابرة على تفاصيل التفاصيل نعود مرة اخرى الى عبدالرحمن منيف وعالمه غير الروائي حيث نتوقف عند دراسته بالمدرسة العبدلية التي وصل لها بعد جولتين خاسرتين عند الشيخين حافظ وسليم.. ولن يصف تفاصيل يوميات هذه الايام بدقه اكثر من عبدالرحمن نفسه والذي يقول عنها (والعبدلية واحدة من المدارس الابتدائية الثلاث الحكومية في عمان اوائل الاربعينات ولكونها في غرب المدينة فقد التحق بها عدد كبير من التلاميذ الذين يسكنون في تلك البقع الواسعة بدءا من رأس العين والمصدار, مرورا بالمهاجرين, ثم سفحي الجبل الجنوبي, والشمالي حتى السوق خاصة في الجهة الغربية منه الى طريق السير).


واذا كان لمعظم المدارس باب واحد يدخل ويخرج منه التلاميذ, فإن للعبدلية بابين الاول نظامي ويستعمل في الصباح وعند الانصراف, الآخر يتسلل منه التلاميذ المتأخرون او الذين يودون الهرب عندما تتاح لهم الفرصة! كان هذا الباب عبارة عن فتحة في الجهة الخلفية من السور, نهاية السفح الحاد, حيث توضعت المدرسة في ذلك التجويف بين شارعين, الاول من الاعلى ويطل مباشرة على المدرسة والثاني يقود الى السوق وطريق السير من جهة والى جبل عمان من الجهة الاخرى.
(عدد الصفوف في العبدلية خمسة وهي موزعة على طابقين في الطابق الاول: الادارة او بالاحرى المدير, وغرفة المعلمين, وفي الجهة المقابلة الصفان الرابع والخامس, اما في الطابق الثاني فالصفوف الثلاثة الاولى اضافة الى باحتين صغيرتين واحدة جنوبية والاخرى شمالية).

اليوم الاول.. واليوم الدراسي

ويستطرد عبدالرحمن منيف في وصف ايقاع المدرسة حيث يصف اليوم الدراسي بقوله (العادة ان يصطف التلاميذ كل صباح في الباحة الجنوبية لاداء نشيد (عاش الامير.. بعد ان يكون المدير يوسف الجيوسي, قد استعرضهم ليتأكد من اللياقة والنظافة, وكانت العصا, اغلب الاحيان, لا تفارق يده. اذ يمر ببطء ورأسه يرتفع وينخفض بطريقة آلية, وهو يتفحص الوجوه والملابس وحالما ينتهي من الاستعراض يصرخ فيخرج صوته حادا.. استعد). وبعد الاستعداد الى اليمين در.. ثم بعد قليل: سر بالتتابع ويبدأ الصف الخامس بالتحرك اما الصفوف الاخرى, فتبدأ بالتحرك الساكن حيث ترتفع الارجل وتنخفض بانتظام الى ان ينتهي الصف الخامس فيتبعه الرابع وهكذا حتى الصف الاخير...
اما في وصفه لليوم الدراسي الاول فيقول عبدالرحمن منيف (اليوم الاول في المدرسة يوم خاص, لا ينسى, ففيه يبدو كل فرد وكأنه انسان آخر, المدير والمعلمون والتلاميذ حتى الآذان (ابوحلمي) يبدو فيه بشكل مختلف.
--


هكذا انتهت فصول الحلقة السابقة وبهذه المحطة.. نبدأ رحلة الغوص في عوالم عبدالرحمن الاولى.
وهكذا تنفتح طفولته في عالم صاخب.. خاصة وأن تلك الاعوام كانت صاخبة تماما.. والبلدان وبالذات في فلسطين وما جاورها تحتشد بكم وافر من الاختراقات والمؤامرات.. وكان الانجليز هم حجر الزاوية في كل ما يحدث في هذه الأجواء وفي عام 1940 تقريبا.. كان عبدالرحمن بدأ يكتشف العالم من حوله ويفهم ما حدث, كان ناضجا بما يكفي لكي يمزج شغب الطفولة بتأمل الحياة.. وكانت والدته نورة الجمعان تحث الخطى نحو تشكيله بافضل ما يكون للطفل ان يتشكل.. دون ان يحس انه اقل من اقرانه وبالذات ابناء اقربائه.. ويوغل عبدالرحمن منيف في الذاكرة حين يصف بلغة باذخة البهاء تلك الاجواء قائلا:

(كان عقد الاربعينات في عمان, طويلا, ثقيلا, صعبا.
بدأ العقد في ظل الحرب العالمية الثانية, وانتهى في ظل الحرب العربية - الاسرائيلية الاولى.
خلال الحربين, وما بينهما عانى الناس الكثير: خيم الحزن وطال الانتظار, اما الفرح فكان قليلا وعابرا. كبر الصغار في هذ العقد قبل الاوان, وفي غفلة من الزمن, أما المسنون فقد هرموا اسرع مما يحصل في الأماكن الاخرى, أو في أزمنه مختلفة).

انكسارات عبدالرحمن منيف

ويستطرد منيف في مزج هذه الاحداث بتاريخه الشخصي حين يقول في سياق رده على اسئلة الروائي حليم بركات هذه العبارات الحارقة (فان يموت ابي في احدى محطات السفر, قبل ان يصل الى حيث يريد, وان يموت وعمري لايزيد عن خمس سنوات,... , وان ابقى موزعا بين هنا وهناك, وفي ظل عالم شديد التموج والتغير, ولايعترف للصغار والفقراء بأية حقوق, ثم تتابع القضايا الخاصة والعامة في اطار من التحدي والخشونة, هذه الامور تضع الانسان امام خيار وحيد: ان يبقى او أن ينتهي, ثم تتوالى الاحلام التي سرعان ماتتكسر, خاصة من الناحية السياسية, بدءا من هزيمة 1948, وان يعقبها اكتشاف الفرق الهائل بين الكلمة التي تقال والموقف الذي يتخذ, ثم العمل الذي يحصل, وضمن صيغ متعددة.

ان من شأن تلك الاسباب, أو حتى بعضها ان تجعل الناس يكبرون قبل الاوان. وتجعلهم ايضا يسترقون السمع, ويتساءلون, وتجبرهم على التعلم السريع والاستعداد لمواجهة الحياة القاسية, وهذا ما جعل ذاكرتي تشحن بكم هائل من القصص والاحداث).

المرارة.. تتوالى

من هذه الذكريات التي تقطر مرارة ومما يتراكم من احداث هنا وهناك نستطيع ان نعرف تركيبة عبدالرحمن منيف في تلك الايام.. الابن الاكبر لشقيقتين.. لام تحنو بكل ما تستطيع لبقاء ابنائها فوق حد الفقر.. وبعيدا عن قسوة المعاناة.. من جهة وارتباطه العميق باخوته من أبيه علي وعبدالله وفهد.. من جهة اخرى.. كانت العلاقة متفاوتة في التواصل والانقطاع كان فهد الاقرب سنا له, ولكن علي كان الاكثر حضورا لا عند عبدالرحمن وحده, بل عند كل ابناء ابراهيم المنيف.. كان علما, حاضرا في قلب المشهد بقوة, وكان نجمه يصعد لكي يستعيد مجد أبيه, ولكن رحيله قبل الأوان كما عبر عن ذلك عبدالرحمن في إهداء روايته (التيه) كان الطامة الكبرى.. وبهذه الخسارة الجديدة استعاد عبدالرحمن حزنه الفادح القديم.. وعاودته الحسرة الماكرة.

ولعلي على أخيه عبدالرحمن تأثير بالغ.. حتى ان شقيقته حصة بررت ادراك عبدالرحمن القوي للهجة القصيمية المغرقة في عاميتها.. بسبب حضور عبدالرحمن الدائم لمجلس علي العامر.. والذي تتوافد عليه دائم وفود العقيلات الجدد من القصيم.. والذين لازالوا محتفظين بلهجتهم الأصلية كانت رافدا اساسيا له حتى يتمكن من هذه اللهجة, وبما يتميز به عبدالرحمن من قدرة سريعة على الالتقاط كانت هذه المفردات تسكن ذاكرته ولاتغادرها ابدا محتفظة برونقها وصفائها ومعناها الاول.

منيف.. والاحداث الاولى

وعودة الى عوالم المدرسة العبدلية التي كان لعبدالرحمن فيها قصص وحكايات كونت صداقاته الاولى, وعرف الناس وتعلم الابجدية, وكشف سر الاسئلة المتوالية.

كان ذكيا بما يكفي لان يجتاز كل المحطات بامتياز, وكان شقيا بما يتيح له مشاركة اقرانه هواية الصيد والتي يبدو انها كانت حاضرة بقوة في ذاكرته حتى بعد عقود واحداث طويلة بعد ذلك حين تشكلت بقوة في رواياته وبالتحديد في شخصية زكي النداوي.

وهكذا تمر سنواته في المدرسة العبدلية حافلة بالاحداث ففيها رأى طوفان السيل الاول الذي يغمر عمان.. ويغرقها.. وفيها رأى التظاهرة الاولى. ضد الجوع.. ورأى دخول الانجليز بقوة الى شوارع عمان.. ورأى الغدر والخيانة.. رأى اشياء كثيرة.. ولهذا كان صعوده الى المرحلة التالية لما بعد المرحلة الابتدائية مرحلة عاصفة ومليئة بالنضج الذي يشكل شخصية عبدالرحمن بعد ذلك, فعبدالرحمن بكل حالاته انسان جاد, واضح, ثاقب البصر والبصيرة.. يرى الاشياء بوضوح حاد في اكثر الحالات غموضا كما يقول المقربون له.. والذين كانوا شهودا على طفولته وصباه.. وهكذا يعبر عبدالرحمن محطة الطفولة الى محطة الصبا والمنطقة تغلي.. والاحداث الساخنة تحيط به من كل الجهات وهو يرى عالمه الخاص يذوب تدريجيا في عالم كبير وعام.. ويرى الاحلام تتهاوى.. والاماني تتكسر.

الجدة العراقية وذاكرة عبدالرحمن

في هذه الأجواء تشحن ذاكرة عبدالرحمن بالقصص والذكريات والاسماء والاحداث وتكون لزيارات جدته لأمه (آسيا) المتوالية لعمان قادمة من بغداد تأثير كبير على حياته, وربما اكثر بكثير من شقيقيه, لانها يوردها بشكل مذهل وحضور دائم في (سيرة مدينة), ولكن زيارات الجدة المتوالية لعمان لرؤية ابنها وابنتها واولادهما.. لم تغير من الوضع شيئا, حتى أن تأثيرها كان تاليا, ولكنها يبدو انها كانت تكن لعبدالرحمن الابن الأكبر لبنتها نورة الحب الكبير.. والآن وبعد ان تخرج عبدالرحمن منيف من المدرسة العبدلية فلابد ان تمر في النهر مياه كثيرة.

منيف.. والكلية الاسلامية

وهنا يودع عبدالرحمن منيف المدرسة العبدلية ويدخل الكلية الاسلامية التي قررت أمه نوره الجمعان ان تدخله بسبب جديتها بعد ان قرر اخوها محمد الجمعان ان يسجل ابنه عبدالرحمن (ايضا) في المدرسة الانجليزية, فهي لاتريد لولدها عبدالرحمن ان يدخل مدرسة ثانوية عادية مثل العسبلية, لاتريده اقل من ولد خاله عبدالرحمن, فاذا اذا دخل عبدالرحمن الجمعان المدرسة الانجليزية, فليدخل عبدالرحمن الكلية التي كانت للتو قد بدأت وقد روى عبدالرحمن نشأتها بقوله (لما أقيمت الكلية الاسلامية بين الدوار الاول وملعب كوبان, نظر الناس الى البناء, بتساؤل ودهشة, اكثر من ذلك لم يخف الكثيرون استغرابهم بل وتراهن بعضهم حول الاسباب التي دعت لاقامته في هذا المكان, قال حسنو النية والمتفائلون: تم اختيار المكان لرخص الارض, وبمرور الايام, بعد سنين, لابد ان يعمر, والذين لم يكونوا متفائلين بهذا المقدار قالوا: تجار تبايعوا فيما بينهم ليتخالصوا!.

لم يكن أحد يتوقع لهذه المدرسة ان تنمو وتتقدم بهذه السرعة, لكن عمان خلال تلك الفترة, كانت تمر في حالة خاصة, اقرب الى الانفجار, وهكذا ما ان انتهى البناء الرئيسي, وقبل ان يشاد السور او تسوى الارض, فتحت الكلية أبوابها وتدفق اليها الطلاب).

ويستطرد عبدالرحمن في وصف تجربة الكلية الاسلامية بقوله (الفترة الثانية في مسار الكلية الاسلامية - اذا جاز التقسيم - هي الفترة, والأمر هنا لايتعلق بالكلية ذاتها, أو وحدها, فالاردن بعد الحرب, وإثر بداية تغير علاقته ببريطانيا, دخل مرحلة جديدة, مرحلة كان العمل السياسي احد أهم عناوينها, ان لم يكن العنوان الوحيد).
أما تجربة الانتقال نفسها من مرحلة الى أخرى فيصفها عبدالرحمن منيف باسلوب ساحر في (سيرة مدينة) بقوله (الانتقال من المدرسة الابتدائية الى المدرسة الثانوية كالانتقال الفجائي من الصيف الى الشتاء, ويشبه اقتلاع شجرة من مكانها وغرسها في مكان مختلف, انها عملية شاقة, رغم الشعور بالكبرياء الملتبس, حيث يحس التلميذ انه كبير وصغير في آن, فالمدرسة السابقة لم تعد له, لم تعد تسعه, رغم انه كان في الصف الاعلى, ولذلك عليه ان يغادر, وفي المدرسة الجديدة يحس انه ضئيل ومجهول, وبالتالي لايستطيع ان يتكيف مع المكان بسهولة. في بداية السنة الدراسية تتكون مجموعات على شكل جزر من الطلبة الجدد, تعتبر امتدادا للمصادر السابقة, فهؤلاء الطلبة أتوا من اماكن عديدة, من عمان والبلدات الاخرى القريبة عدا السلط, ولذلك تبدو الهيئات والسموتات شديدة التنوع والتباين, اضافة الى تعدد اللهجات, وهكذا يدخل عبدالرحمن مرحلة جديدة في حياته.. ومحطة ساخنة من محطات العمر المتعددة.

بكمل غداً صباحاً, إن لم يتولى أحد طرح الحلقات. : )
 --


قبل ان نسترسل في استعادة ايام عبدالرحمن منيف في الكلية الاسلامية, نحدد بوضوح عوالم اسرة عبدالرحمن .. وظروفها في ذلك الوقت واعنى في الفترة الزمنية التي تلت وفاة الوالد وحتى دخول عبدالرحمن الكلية في عام 1945م - 1946م .. تقريباً .. فبالنسة لعلي واخوته محمد وفهد ورقية ونورة .. فلم تكمل رقية دراستها وتزوجت بعد وفاة والدها بعام واحد .. ولكنها ظلت على تواصل دائم مع اشقائها حتى انها بعد زواجها كانت تمر على اشقائها كل صباح وتجلس عندهم حتى ما بعد الظهر .. تعد لهم الغداء وتشرف على احوالهم خاصة وانهم سوى علي الذي برغم ذكائه والمعيته الاّ أنه لم يستمر في دراسته ودخل مجال العمل مبكراً فبعد ان كان مساعداً لأبيه في حياته كلفه الوصي عبيدان القحص بالعمل في مهام قيادة البادية.. ولأنه كان صغيراً آنذاك فقد كانت رجلاه تتورمان عندما يلبس (البسطار) ... اما محمد فقد كانت صحته معتلة منذ الصغر .. اما فهد الذي كان الفارق السني بينه وبين اخيه عبدالرحمن حوالي السنة فلم يكمل الدراسة بعد تخرجه من المدرسة العبدلية الابتدائية لأن الوصي اقترح عليه الدخول الى عالم العمل.. اما شقيقتهم نورة فبعد وفاة والدها بفترة اخرجت من المدرسة لتستقر في البيت مما دعاها لتعوض هذه الرغبة في الدراسة في الاهتمام باختها حصة شقيقة عبدالرحمن والذهاب بها الى المدرسة كل صباح بعد ذالك . اما عبدالله ابراهيم المنيف الذي استقر مع اخوانه اشقاء علي فترة من الزمن فقد عادت والدته من دمشق بعد وفاة والده لتستقر معه في عمان وتستأجر بيتا خاصة وان لها اقارب في هذه المدينة .. وتساعد ابنها في اكمال تعليمه.

عندما توفي والدي

وتصف السيدة نورة ابراهيم المنيف وهي على قمة السبعين عاماً هذه الايام وحوادثها بلغة حارقة وذاكرة متقدة .. وحنين جارف للأهل والعائلة .. وتقول بحضور منقطع النظير (عندما توفي والدي كنا (نحن انا واشقائي واختي رقية الايتام الحقيقيين فاخوتي عبدالله ولطيفة (لطفية) وعبدالرحمن وشقيقتاه خديجة وحصة .. كانوا برغم مرارة فقدانهم لابيهم .. يعيشون في كنف امهاتهم .. ولكننا نحن كنا في مهب الريح نعاني قسوة اليتم الحقيقي خاصة ان اكبر الاولاد آنذاك علي لم يكن في السن الذي يسمح له باتخاذ اي قرار وما زال في سن الصبا .. ولكن رعاية خالتي ام عبدالرحمن هي الرعاية الوحيدة لنا .. بينما كانت رقية تقوم - خاصة بعد زواجها باعداد الغداء وزيارتنا صباحاً, فحين كان البنات يذهبن للمدرسة كانت هي تذهب الى بيت اخوتها .. وكان الوصي الشيخ عبيدان يقوم باعطاء المصروف لنا, لنقوم بتدبر شؤون حياتنا, اضافة على ادخاله اشقائي لسوق العمل مبكراً ..

وهنا اسألها هل كان اشقاؤك اذكياء ومحبين للمعرفة فردت السيدة نورة عليّ بقولها: على وفهد اكملا دراستهما بالمدرسة العبدلية ولكنهما لم يستمرا في الدراسة بعد ذلك, في ظل دعوتهما للعمل أما محمد فقد كانت صحته معتلة ولم يكن مهيأ للدراسة يرحمه الله.

نحن الايتام

وهنا اسألها عن حال اخوتها الآخرين? فترد عليّ بصوتها المعطر برائحة الحنين بقولها (عبدالله اشرفت عليه امه في دراسته فنجح واستمر, اما عبدالرحمن وشقيقتاه خديجة وحصة فكان الجهد المذهل لامهم نورة الجمعان التي كانت يرحمها الله تشرف علينا وتهتم باولادها .. وقد كانوا نابغين وبالذات حصة التي كانت تختصر كل سنتين دراسيتين في سنة واحدة حتى انها تفوقت وتجاوزت شقيقتها خديجة (يرحمها الله) وقد كان لأمهم الدور الأكبر في ذلك .. فخوفا على عبدالرحمن من الانشغال في اللهو واللعب مع اخوته واقرانه احضرت له مدرسا خاصاً بعد ان صار بامكانها ان تتصرف بقدر من ثروة زوجها بعد وفاة الوصي, بالرغم من ان عبدالرحمن كان ذكيا, ولا يحتاج الى مدرس خاص, ولكن لتربطه بالبيت وتمنعه من التسيب, خاصة وأنه كان بعد سطوع اسم شقيقي علي في عمان كان يتجول مع اخوانه محمد وفهد في شارع كلوب باشا كأنهم اباطرة لأنه لا أحد يستطيع ان يقترب منهم لأن هؤلاء على قول الشباب في ذلك الوقت (عيال المنيف) أو (اخوان علي المنيف).

الطريق الى هناك

ونعود مرة أخرى الى عبدالرحمن ودخوله الى الكلية الاسلامية التي اسرفنا في تفسير حالة ظهورها في الحلقة السابقة حيث نجد أنه في هذا العالم الذي يعتبر جديدا عليه وعلى عمان كلها قد استطاع التفوق بامتياز وقد وصف عبدالرحمن منيف عوالمه في هذا العالم عالم الكلية الاسلامية بوصف باذخ.. حين قال (الانتقال من المدرسة الابتدائية الى المدرسة الثانوية كالانتقال الفجائي من الصيف الى الشتاء ويشبه اقتلاع شجرة من مكانها وغرسها في مكان مختلف.. انها عملية شاقة, رغم الشعور بالكبرياء الملتبس حيث يحس التلميذ انه كبير وصغير في آن, فالمدرسة السابقة لم تعد له, لم تعد تسعه, رغم انه كان في الصف الأعلى, ولذلك عليه ان يغادر, وفي المدرسة الجديدة, يحس انه ضئيل ومجهول وبالتالي لايتكيف مع المكان الجديد بسهولة, في بداية السنة الدراسية تتكون مجموعات على شكل جزر من الطلبة الجدد, تعتبر امتدادا للمصاددر السابقة, فهؤلاء الطلبة أتوا من اماكن عديدة, من عمان والبلدان الاخرى القريبة, عدا السلط ولذلك تبدو الهيئات والمستويات شديدة التنوع والتباين, اضافة الى تعدد اللهجات. طلبة العبدلية مثلا, أيا كانت الصلة التي تربطهم سابقا, يصبحون اصدقاء, شديدي العصبية والتضامن, بل ومستعدين للدخول في معارك اذا تعرض احدهم للاعتداء او للسخرية, ولايختلف طلبة المدارس الاخرى عن العبدلية, ان لم يكونوا اكثر ترابطا خاصة الذين جاءوا من خارج عمان).


عبدالرحمن في الكلية الاسلامية

ولكن كيف تبدو المدرسة الجديدة?

هكذا يسأل عبدالرحمن منيف وهكذا يجيب (بناية قديمة كانت في يوم بعيد ثكنة عسكرية تقع في شارع جانبي متفرع عن شارع الأمير طلال وسط السوق, لاتبعد الا قليلا عن الجامع الحسيني, وسينما البتراء والمنشيه والكرنتينا, من ناحية الشرق, اما من ناحية الغرب, فانها على رمية حجر, كما يقولون, من الحمام وسوق الحلال الصغير, يحيط بهذه المدرسة.. الثكنة سور عال لايفكر احد, مجرد تفكير, بتسلقه, عدا عن كونه يمنع الكرة من الوصول الى الشارع, وسط السوق من الناحية الشرقية بوابة حديدية ثقيلة, كانها بوابة سجن, يقف وراءها من الداخل, حارس له مهمات عديدة من جملتها فتح الابواب واغلاقها. اما الصفوف المخصصة للطلاب الجدد في الطابق الثاني فتطل مباشرة على الشارع الرئيسي, عبر هذا الشارع تماما حداد لايهدأ كبره ولاتتوقف مطارقه اذا شرد انتباه اي طالب للحظات وكانت النوافذ مغلقة يستطيع ان يلتقط الكير مما يقال تحت النوافذ, اما اذا فتحت هذه النوافذ وكان يحصل ذلك لفترات قصيرة بين حصة واخرى, من اجل التهوية والتسلية معا, فان السوق كله ينتقل الى الصف اصوات الباعة والمساومات والسؤال عن الصحة والمواسم والمسافرين, وايضا الضحكات الصاخبة التي تعقب نكته.. مكشوفة المدرسة واسعة بباحاتها, رغم مافيها من ادوات رياضية اضافة الى الاشجار المعمرة الكثيرة والمنتشرة على الطرف الجنوبي بشكل خاص. عدد الصفوف والشعب كبير في المستويات الدنيا, يتقلص تدريجيا كلما ارتفع المستوى, حتى اذا نجح عدد من طلاب الثالث ثانوي كان عليهم ان يغادروا الى السلط فيما لو ارادوا مواصلة الدراسة, تمهيدا للتخرج من هناك والعودة الى دوائر الدولة والتعليم او لمتابعة دراستهم الجامعية).

عوالم الكلية

يوغل عبدالرحمن منيف في الاستغراق في كشف عوالم الكلية الاسلامية اجتماعيا وعلميا ومعرفيا وسياسيا في كتابه (سيرة مدينة) وفيه يقول (الفترة الثانية في مسار الكلية الاسلامية - اذا جاز - التقسيم - هي الفترة السياسية والأمر هنا لايتعلق بالكلية ذاتها, او وحدها فالاردن بعد الحرب, واثر بداية تغير علاقته ببريطانيا دخل مرحلة جديدة, مرحلة كان العمل السياسي احداهم عناوينها, ان لم يكن العنوان الوحيد, واذا جرى الحديث معظم الحديث حول الكلية الاسلامية فليس اكثر من محاولة لقراءة الاحداث والمحاولات من خلال بؤرة محدودة, يمكن ان تعكس, ويرى من خلالها, وضع البلاد بشكل عام.
--



لايمكن لمن يتصدى لكتابة أو محاولة كتابه سيرة الروائي المبدع عبدالرحمن منيف ان يتجاهل تأثير العام على الخاص, مهما كانت حساسية هذه الاحداث والوقائع حياتيا واجتماعيا, واذا كان عبدالرحمن كروائي اختط الواقعية بشتى حالاتها مدارا تدور في فلكه كل اعماله, فالاولى على من يحاول كتابة حياته السرية ان يكون كذلك.

لذلك تعدينا في استعادة حياة عبدالرحمن في عمان كل الحدود التي وضعها في كتابة (سيرة مدينة) وانطلقنا من كل الوثائق والشهادات التي وصلتنا لنكتب السيرة مرة أخرى بدءا من ما قبل الولادة.. وحتى ما بعد الرحيل منها الى عواصم حاول فيها الطائر النبيل ان يواصل تحليقه وترحاله.
واذا توقفنا طويلا عند محطة عمان فلأنها الاساس والجذر الاول في تشكيل الرؤيا.. ففيها ومنها تكون عبدالرحمن.. ومن خلال تجربتها كانت تجاربه الاولى, ولكي لانبالغ فانني اعترف انه بالرغم من الاعداد الجيد للمعلومات والاحداث الا انني منذ بدء نشر الحلقات اكتشف شيئا جديدا.. أو اصحح معلومة ملتبسة.. ولهذا فان عبدالرحمن منيف وتاريخه الخاص منه والعالم يغدو عند الكتابة عنه الان شيئا عاما.. وهذا من المسلم به عندنا جميعا بالتأكيد.

العودة.. الى الحياة المعقولة

ونعود بعد هذا التبرير لنعيش اجواء الكلية الاسلامية مرة اخرى, ففي عام 45/1446دخل عبدالرحمن الكلية, وذلك بعد ان صار بامكان والدته نورة الجمعان ان تصرف على تعليمه كما تريد, ولأن ولد خاله عبدالرحمن محمد الجمعان ادخله والده الثانوية الانجليزية, رفضت أمه ان تسجله في الثانوية العسبلية التي يسجل بها اغلب ابناء عمان باعتبارها ثانوية حكومية وسجلته في هذه الكلية التي كانت حديث عمان كلها.

لم يخيب عبدالرحمن آمال والدته, وكان يقدم كل فصل اداء متميزا, وكان ينجح في كل عام بتفوق.. وكان مستواه متقدما عن اقرانه بشهادة الكثيرين, وكذلك كانت شقيقته حصة, بل كانت نتائجها تفوقه احيانا, حتى انها كانت تختصر العامين الدراسيين في عام واحد.. اما اخوته من أبيه فبرغم ذكائهم إلا انهم حرموا من استكمال تعليمهم ما عدا عبدالله الذي كانت امه معه.. وتقف من اجل هذا الطموح الكبير.

في هذه الاجواء المحتدة سياسيا ونذر الغزو اليهودي تلوح في المنطقة, واخبار العرب من فلسطين كلها مؤلمة عن العصابات الصهيونية التي تدعمها دولة الاحتلال بريطانيا.
في كل هذه الاجواء حقق عبدالرحمن طموح أمه.. واستطاع في نهاية السنة الخامسة في الكلية ان يغامر بالتقدم لاختبار الثانوية العامة وكان يسمى (ميترك) في المملكة الاردنية آنذاك.. وبالفعل تقدم عبدالرحمن للاختبار قبل استحقاقه بسنة كاملة.. حيث انه مقرر في السنة السادسة.. ونجح عبدالرحمن..وكان ثاني ابناء ابراهيم المنيف الذي يحقق ذلك بعد أخيه عبدالله.
كانت فرحة العائلة وبالذات والدته وشقيقته واخوته علي واخوانه كبيرة جدا.. واحتفلت نورة بنجاح ولدها عبدالرحمن كما يجب.

خيارات ما بعد الثانوية

والان وقد تخرج عبدالرحمن ونال الثانوية فلابد ان يكمل تعليمه ويدخل الجامعة, وكان ذلك اواخر عام 1951م.. طرحت الخيارات ولكن كانت بغداد هي الخيار الاوحد والوحيد.. الذي اتفق عليه الجميع وبالذات عبدالرحمن وأمه واخوه علي.. فشقيقته نورة الجمعان موجودة في بغداد, وعبدالرحمن زار بغداد قبل سنة من تخرجه برفقة أمه لحضور زواج فاطمة الجمعان فاعجبته بغداد في ذلك الوقت واحب خالته وعائلتها.. أما علي الاخ الاكبر فقد كان مرتاحا للمكان الذي سيذهب إليه اخوه.


وبالفعل حسم الأمر سريعا.. واستعد عبدالرحمن ووالدته للسفر ومغادرة عمان.. وبالتالي توديع اخوته واصدقائه وكان وداعه الاصعب وداعه لشقيقتيه حصة وخديجة ولاخوته علي ونورة فهؤلاء بالرغم من قرب الجميع منه.. الاقرب لروحه ولتركيبته. وهكذا يودع عمان.. وشارع كلوب باشا الذي كان يسرح ويمرح فيه هو ومحمد وفهد بحماية اخيهم علي.

يودع عمان مودعا اشتباكاته مع شقيقته خديجة العنيدة في مواجهة دلال الابن الوحيد.. يودع عمان مودعا لعبة أم حجر التي كان يلعبها في ملعب كوبان مع اخوته واصدقائهم.. يودع عمان مودعا طفولته كلها.. ويستعيد عبدالرحمن منيف طفولته هذه في حوار تليفزيوني حيث قال: صدف انه في احدى محطات الطريق ولدت وصدف ايضا انه بعد ولادتي بفترة قصيرة توفي أبي مما اضطر العائلة الى البقاء فترة اضافية في الاردن وطبيعي في تلك المرحلة كان الكثير من سكان المنطقة يتحركون ويغيرون اماكن اقامتهم وتبعا للعوامل الاقتصادية والسياسية اي الهجرات والتحرك القبلي وهذه الحالة من الدوران المستمر الى ان يجد الانسان مكانه وموقعه يتخذ امكانية البقاء أو الاستمرار في رحلة من نوع أو آخر ومعروف الآن على ان قسما من أهل نجد استقروا في العراق خاصة في جنوبي العراق في البصرة والزبير وايضا في بغداد حتى انه كان في فترة معينة يطلق على (صوب الكرخ المدينة صوب عقيل أي أهل نجد).

وطبيعي ايضا محطات الطريق هي دمشق وعمان وبعض الاحيان اذا كانت اتجهت نحو مصر كانت غزة, غزة هاشم كما يطلق عليها وبعض مناطق مصر محطات في الطريق ولاقامات طويلة أو قصيرة.

وردا على سؤال: في سنوات الطفولة هل كنت تنظر الى الأمر نظرة عادية طبيعية أم كنت تحس بقرارة نفسك انك نجدي بعيد بعض الشيء عن نجد?

تصوير وضع الاردن في تلك الفترة يعطي فكرة عن طبيعة المكان وبالتالي المشاعر فالاردن كان في فترة تكون وفترة استقبال السكان ونوع من التفاعل وايجاد علاقات مدنية من نوع أو آخر لكن ايضا كانت هناك كرياح دائمة هي الهجرات أو السفرات أو القوافل المتواصلة القدوم الى عمان وبالتالي تجديد الروابط والعلاقات بين المناطق وسكانها ومن هنا كان هناك نوع من الصلة مع اهل نجد القادمين واغلب الاحيان لفترات طويلة كانت اقاماتهم في طريق القوافل.


الطفل.. وعمان


وفي عمان تحديدا لم تكن هناك مشكلة باعتبار انه يفد اليها كثير من الناس كانت عمان تستقبل الكثيرين من فلسطين وسوريا وايضا من الجزيرة العربية وكانت هناك نوع من المجتمعات نصف المغلقة لان التفاعل كان نسبيا محدودا وكان في طريق التكون والاختبار اكثر من ان يكون متبلورا.
وعن سنوات الشباب في الاردن يقول منيف من جملة المصادفات ايضا كوني اصغر اخوتي فانعكس هذا الجو عليّ سواء في النظرة أو في العلاقات أو حتى في تقييم الاشياء وطبعا لوضع العائلة ومدى رسوخ وجودها وعلاقاتها ولكن اجمالا الصغير يأخذ الكبير قدوة له.

عبدالرحمن الى بغداد

وهكذا وبهذه المشاعر المتباينة يرحل منيف الى بغداد عام 1952م لاستكمال دراسته الجامعية..
وفي ذلك الوقت كانت بغداد تفور سياسة وثقافة.. وكانت الحركة الابداعية وخاصة الشعرية في اوجها..وبالفعل وصل لها برفقة والدته التي استقبلت اجمل استقبال من شقيقتها.. وعائلتها هناك.. وكانت والدتها اي جدة عبدالرحمن لأمه قد رحلت قبل سنوات.. وهذه هي الحقيقة الادق بشهادة كل شهود ذلك العصر.. وهذا عكس ما ذكر في نهاية سيرة مدينة حيث يقول عبدالرحمن:
في نهاية الصيف سافر الحفيد, بعد ان انتهى من دراسته الثانوية.
كانت فرحة الجدة بوصوله لاتصدق.. بكت, ضحكت, زغردت, قرأت على رأسه بعض الادعية, سألته عن كل شيء. ءأما حين عرفت انه اتفق مع أحد زملائه على السكن في دار البعثات العربية, فقد اعترضت وشتمت ورفضت, وحين ذكر لها انه لايستطيع ان يخل بالوعد الذي اعطاه لزميله بالسكن معا, ردت:
- تعال انت وياه, وخذوا القبة اللي فوق.
ولم تترك وسيلة لكي تقنعه, فقال في محاولة لان يلتف على الامر:
- اواعدك ان آجي كل يوم خميس وابات هنا, بيبي!
قررت ان توافق مبدئيا, إذ كانت على ثقة انها ستقنعه في اول خميس بالانتقال.
جاء في الاسبوع الاول, ووعدها ان يهيئ نفسه للانتقال في الخميس التالي يوم الاربعاء جاءه الى دار البعثات احد الاقارب, وبطريقة باردة, اقرب الى الحياد, ابلغه ان الجدة ماتت في الليلة الفائتة, وانه سيجري دفنها ظهر ذلك اليوم!.
كان المشيعون قليلين, لايتجاوزون العشرة. وبتواضع, وفي جو من الادعية المتفرقة, وقد تخللها صمت, دفنت الجدة في مقبرة الشيخ معروف.
قال احد الاقرباء للحفيد, وهم يتحركون, وكانت اللهجة لاتخلو من مباهاة:
- هذي القبور..
واشار الى عدد من القبور المجاورة:
- قرايبنا.. هذي بنت خال بيبي, وهذا اخوها كريّم, وهذا اخوها رحيّم, وهذا قبر خالك هوبي, وهذا...وخرج الحفيد من المقبرة الى دوي المدينة, خرج الى بغداد القاسية والحنونة, ليبدأ مشوارا جديدا في هذي الحياة!.

وهنا.. بغداد

والان وبعد الوصول الى بغداد تبدأ محطة جديدة في حياة منيف.. محطة ساخنة ومتحولة ويتغير فيها مسار حياته بالكامل.. حيث يكتشف العالم.. ويغوص في دهاليز الواقع.. ويصدم به.. الاصطدام الذي يجعله يكتشف الحقائق الملتبسة على حقيقتها.. ولو بعد حين.

وللحكاية تفاصيل أخرى..


--


نحن الآن في بغداد او عاصمة ارض السواد والرافدين والتاريخ عام 1952م التي وصلها عبدالرحمن لاستكمال دراسته الجامعية برفقة والدته بعد ان تركت ابنتيها خديجة وحصة في رعاية اخوتهن وبالذات علي الاكبر ونوره البنت الاقرب لهن وكانت بغداد كما قلنا سابقا تمور بالحركات السياسية والثقافية.. ودعاة التجديد الشعري يملأون المكان ابداعا وصخبا.. اما الواقع الثقافي فكان في اوجه ويكاد يوازي القاهرة وبيروت.. حتى قيل المثل المشهور( القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد هي التي تقرأ)..

هكذا كانت بغداد الخمسينات والستينات حيث كل شيء كان محتدما.

هذه هي بغداد

ولوصف بغداد في ذلك الوقت لن نجد مهما كانت شهادات الشهود ناصعة بالوضوح مثل شهادة للاستاذ جمال حيدر في كتابه (بغداد) يقول فيها (بغداد مدينة سارت بخطوات وئيدة لتتوحد مع ثالوثها السرمدي الماء والدم والحبر ولتكتسب حضورا متميزا ومتمردا على الثوابت, ممتدا في ثراء روحي الى قلب الحاضر وحواف المستقبل. تاريخ مكتظ بالحرائق والفيضانات والامراض والحروب التي اراقت سيولا قانية وغزوات صبغت ماء دجلة باللون الازرق لكثرة ما القي به من مخطوطات وكتب واوراق دونت بعصارة القلب..

في الستينات تغيرت بغداد مستقلة عما يفترض ان يكون نموذجها, بدأت من نفسها لتنتهي بها ايضا وليبلور ذلك العقد فترة زمنية حاسمة لتذليل العقبات بين الماضي والحاضر وحداثة اقحمت قسرا في مجتمع ابدى مقاومة ضارية لمظاهر رأى فيها سلبا لشخصيته لكن سرعان ماتم التوافق بين القيم المتنازعة, وحدثت تبدلات في تفاصيل الحياة وانماطها وباتت قيم جديدة على السطح لم يكن يألفها احد سنوات حلت سريعا وانزوت قبل اوانها.. لا يعرف البغداديون التوحد الا مع مدينتهم السائرة بخطوات وئيدة نحو فضاء مسور بالطيبة وتحت سمائها تضيء ترانيم المارة ومناخات الجدل الفياضة بالالفة والمتسربة الى كل مكان تمتد الثوابت والمتغيرات.. اذن لا شيء على حاله فتحت حركة التاريخ تنحني كل المسلمات والقرائن..

الازقة في الاحياء البغدادية نسخ مكررة لمشهد واحد, وعتبة منازلها اكثر من فاصل بين الزقاق وحياة المنزل انها الخطوة الاولى نحو قيم مكدسة وكل ماهو مخزون من اسرار وعلاقات داخل المنزل .. وفي تلك الاحياء غالبا ماتكون التقاليد مشفوعة بقرنين على الاقل..
جدران يختفي وراءها حبل طويل من الازمنة والحكايات.. احياء بغداد القديمة تشبثت دوما بجدران الذاكرة .. تلك الجدران التي انثالت وتراكمت اكوام ترابها تمور تحت رحمة المعاصر الذي طوى صفحة الماضي واخذ بثأره على نحو مذهل..

قسمت بغداد اثر الاحتلال البريطاني الى مائة محلة.. وقبل ان تكتسب تلك الاحياء اسماءها كانت تعرف بـ (العكد) وهي تربو على الالف..

في جانب الكرخ من بغداد استقرت زوايا المدينة في ملامح النازحين اليها من مدن صحراوية بعيدة: سمات الوجوه اللهجات العادات والقيم المتبادلة تفضح اصول المكان الاول. ورغم الاقنعة التي ارتدتها تلك الاحياء غير انها ظلت عاجزة عن اخفاء حقيقة ذلك الانتماء.. ومنذ مطلع الخمسينات استيقظ جانب الكرخ من غفوة طويلة امتدت قرونا عدة تمطى ونفض النعاس عن جفنيه في الستينات انزوت بقايا الاحياء القديمة في الكرخ في مساحة قليلة ليمتد الزخم الحياتي الكبير بثبات الى احياء جديدة وراقية كالمنصور والحارثية والداوودي والسيديه وكرادة مريم والمأمون وحي العدل وغيرها).

عبدالرحمن وبغداد

هذه كانت بغداد التي وصل لها.. وبالفعل انغمر في اجوائها خاصة وانه سكن وعاش مع شباب عرب يحملون نفس همومه وبعد اسابيع من وصول والدته نورة الجمعان الى عمان بعد ان اطمأنت عليه, وعلى رعاية خالته له, كان عبدالرحمن في الفترة شابا في مقتبل العشرين محتشدا باحلام كثيرة, ولذلك وجد في هذا الفضاء الثقافي فرصة له كي يكون نفسه, ولكي نكون واقعيين فان عمان بكل انفتاح عبدالرحمن عليها لم تستطع ان تصقل مواهبه وخاصة الادبية ولذلك ظلت مشاركته محصورة في المجال المدرسي الذي كان عبدالرحمن يشارك فيه, اما عدا ذلك فلم ينشر في اي صحيفة او مجلة أي تجربة له وكذلك كان في بغداد ولكن عوالم بغداد كانت اكثر ثراء لانه لم يستقبل الثقافة بل يعيشها فبغداد في منتدياتها ومقاهيها ومكتباتها كانت منارة تعصف باي جمود مهما كان فمابالك بانسان عنده الرغبة الاكيدة والمضمرة لكي يكون مبدعا ادبيا لذلك كانت عوالم بغداد الثقافية, وصدمتها السياسية من اسباب انسياق عبدالرحمن التدريجي الذي يصل الى النهائي للادب باعتباره ملاذه الاخير ولكن قبل ان نسترسل في سرد حياة عبدالرحمن في بغداد دعونا ننصت قليلا لعبدالرحمن منيف وهو يصف التجربة بسرعة وايجاز واختصار وكانها لم تكن اربع سنوات.

هكذا كانت

ويبتدئ عبدالرحمن حواره عن بغداد في حواره التلفزيوني بتبرير جميل عن لماذا بغداد بقوله (وطبيعي احد الدوافع لاختيار العراق كمكان للدراسة هي كون لي اقرباء وعلاقات مع العراق باعتبار امي عراقية هذا اولا (امه لم تكن ولكنها سعودية عاشت في العراق, وجدته هي العراقية)ويلتبس هذا الموضوع في اكثر من مكان) الشيء الثاني المقارنة بين بغداد وعمان حتما ستكون لمصلحة بغداد باعتبارها مدينة كبيرة فيها كم هائل من الثقافة والمثقفين وفيها انداء واسعة من حرية التفكير بمعنى الاطلاع بمعنى الاحتكاك بمعنى الاكتشاف ايضا.

ومن هنا كان الذهاب الى بغداد هي رحلة نوعية بالنسبة لي وبها اتيح لنا ان نحتك مباشرة سواء عن طريق الجامعة او عن طريق القوى السياسية فطبيعي مثلا في عام 1952م في الفترة التي وصلت فيها الى بغداد كان فيها الانتفاضة الاولى والتي امتدت لكافة ارجاء العراق وغيرت في بعض ملامح السياسة).

وردا على سؤال التناقض الذي يحدث الذي يحدث غليانا سياسيا تواجهه فورة ادبية ابداعية (طليعية) حتى يبدو انك تماهي بين السياسي والثقافي بعكس المتوقع خاصة عندما تسخن الامور السياسية تتحول الى ركود والى احباط تمتد للمثقفين والمفكرين وحتى ربما الحزبيين?

ويرد منيف على هذا الاتهام الواضح تماما بقوله (الفترة التي اعنيها هي من 1952 الى بداية 1956م ورغم الضغوط السياسية والقمع الا انه كان هناك نوع من الحيوية الفكرية المتزايدة والتي عبرت عن نفسها بعد ذلك بوضوح واضح وكامل من خلال الشعر ومن خلال الحركة التشكيلية والعراق بدون شك ككتلة سكانية وعلى صلة مع الحضارة ومع الثقافة حتى الغربية منها, كان مكانا رحبا لاستقبال كثير من الاشياء والتعامل معها وايضا تحويلها الى لهجة محلية.

ففي ذلك الوقت اكتشفنا كما كبيرا من عناصر الثقافة يعني الثقافة بالنسبة لي ليس مجرد الدراسة في الجامعة وانما كانت هي عبارة عن كتب جديدة وعن مناظرات( ويستطرد منيف في قراءة بغداد آنذاك بقوله ) كان هناك نوع من الهوامش قدرت السلطة آنذاك في العراق انها غير مؤذية أو بالامكان احتمالها ولذلك كان هناك يوميا محاضرات او ندوات او عروض تشكيلية وكل هذه تعتبر مصادر ثقافية .. وبامكانها ان تزيد الاطلاع والمعرفة فيما يتعلق بالشأن العام).

ثراء التجربة

كانت اقامة بغداد من 52-1956م تعتبر تجربة ثرية ففي اربع سنوات عرف الحركة الثقافية ولو عن بعد واعترك بالمجال العام.. وبدأت ادواره الفكرية تأخذ منحى عمليا.. وكانت خالته تزيد ارتباطه ببغداد بينما الطلاب العرب الساكنون معه في سكن البعثات رفاقه في الرؤية والرغبة المغمورة بحماس الشباب.. كانت العروبة آنذاك ماتزال تنزف جرح فلسطين.. وعبدالرحمن منيف بالذات كان اكثرهم معرفة بذلك لانه جاء من الاردن حيث كانت قوافل المشردين امامه دائما تسرد الكارثة وتحمل ملامح النكبة.. وتغني عن اي تعبير وفي هذه الاجواء دخل عبدالرحمن الجامعة.. تخصص (حقوق) وبدأت من هنا محطة بغداد..

والى هنا تنتهي حلقات بدوي في أرض السواد.

أما سيرة عبدالرحمن منيف في بغداد والقاهرة وبلغراد وبيروت ودمشق فتحتاج الى عشرات الحلقات.. وعسى ان نجد من يتصدى للكتابة عنها.


هناك 5 تعليقات:

  1. ياصديقي اجمعها في كتاب او كتب --جهد كبيرلرجل يستحق

    ردحذف
  2. حقا ؛ جهد يستحق الإشادة

    ردحذف
  3. السلام عليكم
    مجهود رائع جدا
    انا ابن فهد المنيف وعبدالرحمن هو عمي رحمهم الله جميعهم
    لدي روايتان بخط يده الاولى حين كان في الثانويه العامه في الاردن والاخرى حين كان في بغداد كل ما احببت ان اذكر من سبقونا الى الدار الاخره افتحهم واقرا ما خطت يدين عبد الرحمن وفهد وعلي على ذلك الدفتر القديم

    ردحذف