منذ أن أطلعنا على كتابات الأوروغواياني إدواردو غاليانو الذي يعرفه القاريء العربي جيدا منذ "كرة القدم بين الشمس والظل" وحتى "مرايا: ما يشبه تاريخا للعالم" و" الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية"
ونحن نعيش حالة ذعرمن إعادة صياغة الذاكرة التاريخية برؤية سردية، توظف انتقائياتها واختياراتها واختزالاتها الماكرة بصورة تجعل المشهد دراميا وكأننا أمام عمل روائي تتسلسل أحداثه حسب بوصلة المبدع لا حسب مسيرة التاريخ.
ولكن الحقيقة الدامية أن كل ما حدث مهما كان سوداويا هو حقيقي، وتكرر أكثر من مرة إلى حد أن ذاكرة التاريخ لم تستطع نسيانه ولا طمس ملامحه.
ولكن تجربة غاليانو المذهلة ليست الوحيدة، فهناك أيضا من تصدى لهذه المهمة في محاكمة التاريخ بالتاريخ ومواجهة الواقع بوقائعه.
ومن هؤلاء الممعنين في النبش كحفاري الحفور في دهاليز الماضي البعيد والقريب التشيكي باتريك أورشادنيك الذي سطر فجيعة أوروبا الدامية في ملحمته "أوربيانا : مختصر تاريخ القرن العشرين" الذي أنجز ترجمتها د. خالد البلتاجي عام 2014 كمحطة مهمة من ترجماته العديدة عن التشيكية ومنها ترجماته لكافكا وفاسلاف هافل واميل هاكل وآخرين ولم توزع جيدا في المكتبة العربية بسبب استحواذ "دار العربي" غير ذائعة الصيت عليها.
..
وعودة إلى باتريك الذي منذ هجرته الى فرنسا عام 1984 وهو في الـ 27 من عمره، مبررا ذلك بصدامه مع النظام واختلافه مع الديكتاتورية وهروبه من الاختناق الفكري وبحثه عن حياة مختلفة، نجده يغوص في المجتمع الفرنسي بكل تحولاته بدءا من عمله كمستشار للعبة الشطرنج ثم أمين مكتبة حتى دخوله مجال الصحافة الثقافية والعمل في الجامعة الحرة
ولكنه كان على الدوام مبدعا ومترجما حيث ترجم من التشيكية الى الفرنسية بعض أعمال بوهوميل هرابال ، فلاديمير خلان ، يناير سكاسيل ، ميروسلاف هولوب وجورج قريسا، بينما ترجم من الفرنسية إلى التشيكية بعض أعمال فرانسوا رابليه ، ألفريد جاري ، ريمون كينو ، صموئيل بيكيت ، هنري ميشو ، بوريس فيان وكلود سيمون,
ولكن ما أنجزه وترجمه يقف خجولا أمام عتبة عمله الرائع " أوربيانا : مختصر تاريخ القرن العشرين" الذب صدر أولا عام 2001 بالتشيكية ثم ترجم بعد ذلك إلى أكثر من 30 لغة، ولفت انتباه العالم وحصد الجوائز من مسقط رأسه وحتى أمريكا.
حيث يروي بدون أختصار ولا رحمة قصة الموتى والتطهير العرقي ومجازر القرن العشرين التي فتكت بالأوروبيين، دون أن ينسى حمالات الصدر وطول الجنود الألمان وكل ذلك بطرافة وتهكم ولغة ثرية وباذخة البهاء.
..
ومن أجواء الكتاب تأكيداً على هذه العذوبة نتلقط هذه المشاهدات:
" كان بعض المؤرخين لاحقا يقول أن القرن العشرين بدأ في عام 1914، مع اندلاع الحرب، لأنها كانت أول حرب في التاريخ يشارك فيها هذا العدد الكبير من الدول، ويموت فيها هذا العدد الكبير من البشر وتطير السفن الجوية والطائرات لتقذف الاراضي والمدن والمدنيين، وتغرق الغواصات والسفن وتطلق القذائف من المظلات على بعدعشرة أوعشرين كيلومترا.
كانت الحرب التي اخترع فيها الألمان الغاز، والإنجليز الدبابات.
واكتشف فيها العلماء النظائر ونظرية النسبية ، التي اثبتت انه لا وجود للميتافيزيقيا، وان كل شيء نسبي.
وعندما رأى القناصة السنغاليون الطائرة لأول مرة اعتقدوا أنها طائر اليف وقام احد الجنود السنغاليين باجترار قطع لحم من جثث الخيول الميتة، وراح يرميها بكل عزم على الطائرات حتى تبتعد عنه.
كان الجنود يرتدون زيا اخضر مموها حتى لا يراهم الأعداء وكان هذا امرا جديدا وقتها حيث كان الجنود في الحروب السابقة يرتدون أزياء مزركشة للغاية حتى يسهل التعرف عليهم من بعيد.
وظهرت في الهواء السفن الطائرة والطائرات واصيبت منها الخيول بالفزغ,
وراح الادباء يبحثون عن أسلوب افضل للتعبير ففكروا في عام 1916 في الدادائية لأن كل شيء بدا لهم سخيفا.
وفي روسيا فكروا في الثورة.
فحمل الجنود حول اعناقهم أومعصمهم علامة تحمل اسمهم ورقم الكتيبة التي يتبعونها حتى يسهل التعرف عليهم لكي يرسلوا لذويهم برقيات التعزية، وعندما كانت رقابهم او أيديهم تنفصل عن أجسادهم
اثناء الانفجار كانت القيادة العسكرية تعلن انهم جنود مجهولون
وكانوا يشعلون شعلة كبيرة في معظم العواصم لاحياء ذكراهم لانالنار تحتفظ بذاكرة الماضي
كان طول طابور الجنود الفرنسيين الذين لحقوا حتفهم في الحرب يمتد الى مسافة 2681 كيلومترا، وطابور الجنود الانجليز 1547 كيلو مترا والجنود الألمان 3010 بمتوسط طول الجثة 172 سم.
وكان اجمالي طول طابور الموتى في انحاء العالم 15508 كم
انتشرفي عام 1918 وباء البرد في كل انحاء العالم,
كانوا يطلقون عليه نزلة البرد الاسبانية التي قتلت أكثر من عشرين مليون نسمة.
قال معارضو الحرب ومناهضو التسليح لاحقا ان هؤلاء كانوا من ضحايا الحروب.
لان الجنود ومثلهم المدنيون كانوا يعيشون في ظروف صحية سيئة.
وأكد علماء علم الامراض ان من ماتوا بسبب الانفلونزا كانوا أكثر ممن ماتوا في الحروب وخاصة في جزر المحيط الهاديء، والهند، والولايات المتحدة الامريكية.
وقال الفوضويون ان هذا ما يجب أن تكون عليه الأمور،
لان العالم قد فسد، ويتجه نحو الفناء."
...
أخيراً
كم هو مرعب هذا العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق